تزوير كلاشنيكوف: حين يُطلق اسمٌ كما الرصاصة على صاحبه

تزوير كلاشنيكوف: حين يُطلق اسمٌ كما الرصاصة على صاحبه

03 مارس 2020
يرى كثيرون أنّ العمل فيه تزوير لحقائق تاريخية (Getty)
+ الخط -
بدأ عرض فيلم "كلاشنيكوف" بالتركيز على تمجيد "كلاشنيكوف" البندقية، وإهمال الجانب الإنساني في حياة المبتكر الإنسان، وبالتبشير بقدرة الشعور الوطني الروسي على تخطي الصعاب وصنع المعجزات حتى من دون تلقي العلوم الكافية، وبالتزامن مع احتفالات روسيا بذكرى تأسيس الجيش الأحمر. ورغم تأكيد منتجي الفيلم ومخرجه قسطنطين بوسلوف أنّهم أرادوا التركيز على الجانب الإنساني من حياة صانع السلاح الروسي، إلا أن الفيلم "الباهت والممل" تجاهل محطات مهمة من تاريخ الرجل، مرتبطة بنفي عائلته وإيداع شقيقه معسكرات الاعتقال من قبل سلطات البلاد.

وذهب كاتب السيناريو إلى تزوير بعض الحقائق من أجل خدمة "الهدف الأسمى"، خاصة أن الفيلم أنتج برعاية وتمويل وزارة الثقافة ووزارة الصناعة والتجارة، والجمعية التاريخية العسكرية الروسية، وشركة "روستيخ" القابضة المنتجة للأسلحة، ومجموعة شركات "كلاشنيكوف" لإنتاج الأسلحة النارية، وقناة "زفيزدا" التلفزيونية التابعة لوزارة الدفاع الروسية.

الفيلم الذي كان مقرراً الانتهاء من تصويره وعرضه بمناسبة الذكرى المئوية لولادة صانع الأسلحة الروسي ميخائيل كلاشنيكوف (1919 - 2013)، يبدأ بمشاهد من الحرب العالمية، وتعرض الجندي الشاب ميخائيل كلاشنيكوف لإصابة في عام 1941 أثناء قيادة دبابة في الجبهة الغربية لصد تقدم الألمان، يقرر الأطباء إرساله للنقاهة في بيته البعيد في شرق روسيا، رغم إصراره على مواصلة القتال مع زملائه.

في الطريق من المشفى إلى محطة القطار، وبعد جرح الجندي المرافق له على يد الألمان بسبب عطل في عمل البندقية الروسية؛ يبدأ المصمم الحاصل على تعليم ابتدائي فقط التفكير في إنتاج بندقية تنافس بنادق الجنود الألمان، بعدما استطاع بنظرة ثاقبة فهم السبب في عدم خروج الرصاصات من السبطانة. وبدلاً من استغلال فترة النقاهة، يقرر كلاشنيكوف النزول من القطار قبل الوصول إلى أهله، ويقصد ورشة لإصلاح عربات القطارات في كازاخستان السوفييتية كان عمل فيها سابقاً. وبعد يأسه من إقناع مديره السابق بضرورة تأمين ظروف له للعمل على إنتاج بندقية تحمي الوطن وتبعد الأعداء، تشاء الصدف أن يلتقي أحد الجنرالات في محطة القطار، ليقنعه بخطته خلال دقائق معدودة من حوار في الشارع، ويحصل منه على رسالة تجبر مدير مركز تصليح العربات على منحه مكاناً مناسباً لصنع بندقية المستقبل، ليحقق هدفه بمساعدة عمال الخراطة في المركز من دون أي رسومات تصميم. وبعد تجريب السلاح، ينتقل ليبشر الجنرال بنجاح المهمة، ليفاجأ بوجود مسؤولين آخرين يسخرون من ادعاءات "الجندي الريفي غير المؤهل علمياً" بأنه استطاع تصميم وإنتاج بندقية تنافس الصناعة الألمانية، ويقررون إيداعه السجن إلى حين الحصول على تعليمات من القيادة التي بتت سريعا في الأمر، وقررت ترشيح الجندي الشاب إلى موسكو لخوض مسابقة لاختيار أفضل بندقية جديدة لتسليح الجيش السوفييتي.


وبعد تحدي الصعوبات، يتعرف كلاشنيكوف في موسكو إلى نصفه الثاني في رحلة الكفاح، وزوجته المستقبلية، يكاترينا، التي كلفت بمساعدته لرسم تصاميم البندقية. وبعد عمل متواصل، وبفضل الإرادة والروح الوطنية والحب، ينجح المصمم الشاب في صنع بندقية "A K 47" (كلاشنيكوف) الأسطورية، متفوقا على مصمم الأسلحة السوفييتي الشهير الجنرال فاسيلي ديكتاريوف، وغيره من كبار المصممين نتيجة "منافسة رأسمالية" أوجدها القائمون على الفيلم في جيش عقائدي يخوض الحرب العالمية الثانية رغم أنها لم تكن موجودة أصلاً في المجتمع السوفييتي.

وبعد إتمام المهمة بإنتاج البندقية، والحصول على تكريم ستالين، ينتهي الفيلم بعودة البطل مع زوجته وأطفاله إلى ألتاي، منطقته الأم، مهملا أكثر من 60 عاما عاشها كلاشنيكوف بعيدا عن صخب العاصمة موسكو. وحقيقة كان يمكن اختصار الفيلم أكثر بعبارة ظهرت في الدقيقة الأخيرة على الشاشة تقول: "بندقيته أنتجت بكمية 200 مليون قطعة، وأصبحت شعار القرن، اعتبر الكثير من الرؤساء والملوك والأمراء والشيوخ التقاط الصور معها مبعثا للفخر، وكان حصولهم على كلاشنيكوف الشهير كهدية مبعثا للسرور. أما هو (ميخائيل كالاشنيكوف)، فقد سعى طوال حياته لهدف واحد، أن يكون الوطن الذي ولد وترعرع فيه، محمياً".

وبعد عرض الفيلم، استنكر عدد من المؤرخين والنقاد الروس زعم المخرج قسطنطين بوسلوف أنه تعمد "إظهار الجانب الإنساني من حياة ميخائيل كلاشنيكوف"، مشيرين إلى التجاهل التام لحقائق تاريخية مهمة من حياة صانع الأسلحة الشهير، مثل نفي عائلته من منطقة ألتاي إلى سيبيريا في عام 1930، بسبب أن والده كان من الفلاحين الأغنياء نسبيا في روسيا الإمبراطورية، وعدم ذكر لجوء كالاشنيكوف لتزوير وثائقه الشخصية كي لا تعرف السلطات من هو والده، ليتمكن من الحصول على عمل.

انتقد المؤرخ أناتولي مورافليوف، المختص بتاريخ وحياة ميخائيل كلاشنيكوف، الأخطاء المتعمدة في سيرة المصمم، مشيراً إلى أن البطل طوال مدة الفيلم يبعث برسائل إلى والدته في منطقة ألتاي، يتغنى بها وبجمال وطنه الصغير وكم هو مشتاق إليه، في حين أن والدته تم نفيها من هناك إلى سيبيريا في 1930.

كما أعرب مورافليوف عن دهشته من "اختراع" منتجي الفيلم صراع كلاشنيكوف مع رجل المخابرات الذي كان يرافقه في موسكو واستخدامه السلاح لتهديد رجل الأمن، موضحا "أن حادثاً من هذا النوع مع استخدام السلاح، كان عقابه الإعدام رمياً بالرصاص"، مستهجناً لجوء المنتجين لهذا التزوير، وتأكيدهم في الوقت ذاته أن كل تفاصيل الفيلم مأخوذة من الواقع.

تكشف الوثائق التاريخية أن كلاشنيكوف أنهى دراسة في مدرسة صناعات الدبابات في كييف قبل مشاركته بالحرب، وابتكر مجموعة من الأجهزة لتحسين عمل الدبابات، وتابع دراسته ليحصل على دكتوراه في العلوم التقنية في 1971.

وفي حين سارع مسؤولون روس، كعادتهم، إلى الترويج للفيلم الذي "يحيي مشاعر الوطنية في النفوس"، وطالبوا بضمه إلى الأفلام الإلزامية للعرض في المدارس. لاحظت الناقدة الفنية في صحيفة "كوميرسانت" يوليا شاغيلمان أن الفيلم "سطحي للغاية، ويدور بمجمله حول كلاشنيكوف البندقية وليس كلاشنيكوف الإنسان"، مشيرة إلى أن الفيلم تجاهل أن شقيق المصمم كان من المنفيين إلى معسكرات الاعتقال السوفييتية.

كما أشارت شاغيلمان إلى أن الفيلم لم يتطرق لعلاقة المصمم في سنواته الأخيرة بحقيقة اختراعه سلاحاً "حمل الموت والدمار، وفكرة هل هو حقاً فخور باختراعه"، موضحة أن الفيلم كعادة الأعمال الفنية الروسية في السنوات الأخيرة، تجاهل هذا الجانب المهم، بمبرر أن "الوقت غير مناسب لهذه الترهات، فالوطن في خطر محدق".

ومن جانبه، انتقد الصحافي الروسي أرتيوم باوسوف الجانب الفني للفيلم، مشيراً إلى أن العمل الفني خرج باهتاً ومملاً، "وقد كدت أغفو أثناء مشاهدته". يوضح باوسوف أن الفيلم عن حياة ميخائيل كلاشنيكوف وعن ولادة البندقية الشهيرة التي دخلت موسوعة غينيس بحجم انتشارها حول العالم، يجب أن يكون عملاً عميقاً وديناميكياً مثيراً للاهتمام، "إلا أن هذه الصفات، لا تنطبق للأسف على فيلم المخرج بوسلوف، الجاف والممل، والذي تتفوق عليه المعلومات المنشورة على صفحات ويكيبيديا في الإثارة والحبكة".

ومؤكد أن قصة حياة ميخائيل كلاشنيكوف مثيرة للاهتمام، ومليئة بتفاصيل مهمة، لكن الفيلم لم يبرزها. منها ما كان يمكن أن يخدم فكرة بعث الروح الوطنية، مثل القيود التي كانت مفروضة على حركة المصمم، وعدم حصوله على براءة اختراع أو أي مبالغ مقابل بيع البندقية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولعل الأهم أن البندقية التي صممت لحماية البلاد، وكانت رمزاً لحركات التحرر، باتت أيضاً أداة في يد المهربين وقطاع الطرق والمجرمين، وهو ما عبر عنه كلاشنيكوف في رسالة موجهة إلى رأس الكنيسة الأرثوذكسية البطريرك كيريل، تم الكشف عنها بعد وفاته، أعرب فيها عن ألمه، من أن البندقية التي صممها من أجل الدفاع عن الوطن ولكي يتمكن الناس من حماية أنفسهم، يحملها أطفال وتسببت بمقتل مئات آلاف الناس حول العالم. ويبدو أن القائمين على الفيلم لم يستسيغوا أن يكون أحد الرموز الوطنية التي تعرف بها روسيا في العالم نادماً ولو جزئياً على هذا الاختراع.

ومعلوم أن ميخائيل كلاشنيكوف رحل في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2013 عن 94 عاماً في مدينة إيجفسك شرقي روسيا إثر صراع مع المرض، ودفن في المقبرة العسكرية بعد مراسم عسكرية رسمية شارك فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكبار القادة السياسيين والعسكريين في البلاد.

المساهمون