"أميركان فيكشن": هل الانمحاء والتنميط ثمن النجاح الجماهيري؟

"أميركان فيكشن": هل الانمحاء والتنميط ثمن النجاح الجماهيري؟

17 ابريل 2024
"أميركان فيكشن": محاكاة ساخرة للنوع الروائي المطلوب (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "American Fiction" يروي قصة كاتب يرفض الخضوع للمعايير الفنية المفروضة، متحديًا الكليشيهات الأدبية والتصنيف العرقي لأعماله، مما يؤدي إلى صراع فني وشخصي.
- الفيلم يستكشف تأثير العزلة والضغوط العائلية على العملية الإبداعية للكاتب، مع تسليط الضوء على السخرية من المعايير النشرية والإنتاجية التي تحكم الأعمال الأدبية.
- يختتم بتأملات حول قيمة الاستقلالية الفنية مقابل النجاح الجماهيري، مؤكدًا على أهمية الصبر والتواصل مع الأسرة، ويناقش التحديات التي يواجهها الكتّاب في سوق النشر.

 

يصغي الكاتب إلى توجيهات الناشر والمنتج السينمائي. يرفض الخضوع لتوجيهاتهما الفنية. هذا حاصلٌ في American Fiction لكورد جفرسون، الفائز بجائزتي "بافتا" البريطانية (النسخة 77، 18 فبراير/شباط 2024) و"أوسكار" الهوليوودية (النسخة 96، 10 مارس/آذار 2024)، في فئة أفضل سيناريو مقتبس، عن رواية بعنوان "انمحاء" (2001) لبِرسِفِل أفيريت (السيناريو لكورد).

انمحاءُ مَن أمام ماذا؟

انمحاء شخصية الكاتب وأسلوبه (أداء متميّز لجيفري رايت) أمام ما يُسمّيه جيرار جينيت "مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كلّ نص على حدة". ("مدخل لجامع النصّ"، جيرار جينيت، ترجمة عبد الرحمن أيوب، "دار توبقال للنشر"، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1986، ص. 5). هذه خصائص سابقة على ميلاد الكاتب.

يرفض الكاتب الانمحاء أمام جامع النص. يرفض الكتابة وفق الخصائص العامة المتعالية، المُكرّسة ككليشيهات. يريد ترك بصمته الأدبية، لذا لا تُستَقبل رواياته بترحاب.

من هنا وُلدت الدراما في فيلمٍ يجْدل ضفيرتي وقائع على الصعيدين الشخصي والفني، في حياة كاتبٍ أسود غاضب لأنّ كتبه تُصنَّف في المكتبات في خانة عرق الكتّاب السود، لا على أساس النوع الأدبي، أو المواضيع.

على الصعيد الشخصي، يتّضح (بحسب الفيلم) أنّ نصف الشعب الأميركي يعاني الأرق. بحثاً عن السلام والعزلة، يهرب البطل من أسرته ليتفرّغ للكتابة. يتعايش مع تفكّك عائلي شديد، ومع تدهور مهول لموقع العائلة في حياة الفرد. انقرض المتزوّجون في الأفلام الأميركية. بَقي أولادٌ مُطلّقون، يُحرّضون أمّهم على أبيهم الميّت. لإنقاذ الأمّ من الحزن، يُخبرونها أنّه كان يخونها. تُجيبهم بأنّها كانت تعرف. يُصدَمون.

في الاستهلال الفني، يتحرّق الكاتب أمام الصفحة البيضاء. يتخيّل شخصياته تتحدّث أمامه ليفهمها. يريد أنْ ينزاح عن السائد، ويُملي على القرّاء موضوعه وأسلوبه، ويحظى بالقبول والنجاح. لكنّ سوق النشر تفرض عليه أنْ ينمحي ليتطابق مع قانونها. الكاتب مُصرّ على مقاومة الانمحاء. مشغولٌ بأسئلة أدبية أسلوبية، للتعبير عن ذاته. فجأة، يجد نفسه متوّرطاً في متطلّبات حياتية لا تنتهي، وهذا يُغيّر نظرته لحياته العائلية، وللفن.

 

 

من تلك الورطة، وُلد الحل. يكتشف الكاتب أنّ القليل من الصبر مع أفراد عائلته أفضل لصحّته من قطع علاقته بهم. الفيلم كوميديا سينمائية عن بيئة جامعية موبوءة، تعيش تنافساً مرَضياً بين من يكتب ويحفر بحثاً عن العمق، ومن ينشر كتاباً كلّ ستة أشهر، ويجري ليلمع فيطفو كبيضٍ فاسد. ينصح الأستاذ الجامعي زميله: "اترك التجسّس على حياتي، وركِّز على الكتابة".

هذا الفيلم حقنة فنية للتعقيم الذاتي ضد كلّ ما يتهدّد الذوق الرفيع. سَبق الحُكم الوصفَ، لذا سيلي التعليلُ الحُكمَ. تتوالى فيه كادرات كلوحات. يحرص كورد جفرسون على وضوح مفاصل الأحداث. يجري الانتقال بين المشاهد باقتصادٍ في الكادرات، في فيلمٍ عن معايير كتابة الرواية وتسويقها في أميركا. في معرض الكتاب، في بوسطن، هناك قاعة خالية وأخرى مزدحمة. تُلغى ندوة القاعة الأولى لعدم توفّر الجمهور. حينها، يتّجه الكاتب إلى القاعة الممتلئة، فيُلاحظ تزاحم الجمهور على الكاتبة النموذجية. يقارن أسلوبها بأسلوبه.

الفيلم محاكاة ساخرة للنوع الروائي المطلوب. يُفضّل أنْ يكتب روائيّ أسود عن الزنوج، ليُنشر له كتابه. أفضل رواية تلك التي تحكي عن شُرطيّ أبيض يُطلق الرصاص على شاب أسود. هكذا يفرض الناشر خصائص الموضوع والمنظور، لضمان الربح. أمّا أنْ يكتب كاتب أبيض عن هذه الواقعة، فاحتمال نشر روايته ضعيف. يضع احتمال النشر بشدّة إنْ يكن الكاتب الأبيض يعيش قصّة طلاق.

في معرض الكتاب في بوسطن، تتبع الكاميرا الروائي الذي ينفّذ توجيهات الناشر، ويكتب رواية تشبه سلسلة "لعبة العروش". يُفضّل أنْ يكتب كلّ كاتب عن عرقه. يبحث الناشر والمنتج عن سجين سابق. تتطابق معايير الناشر والمنتج. أفضلُ إشهارٍ لأيّ رواية إعلان شرائها لاقتباسها لمسلسل، أو للسينما. صارت السينما معياراً للأدب.

انقلب الوضع الذي كان سائداً في القرن العشرين.

يطرح الفيلم نظريةً في الكتابة، مُؤسَّسة على المعرفة التجريبية الضرورية للكاتب. يشرح له الناشرون أنّ المطلوبَ روايةٌ عن شابٍ أسود يتعرّض لإطلاق رصاص من شرطيّ أبيض. يطلبون رواية تستثمر الكليشيهات المألوفة لدى المتلقّي. روايةٌ بقلم كاتبٍ أسود يعيش في الغيتو، ويتحامق ويتغابى لتُباع كتبه. الطلبُ يقرّر شكل العرض. إذاً، لا جدوى من مقاومة التنميط باسم التفرّد والاستقلالية الفنية. يبدو أنْ توني موريسون خضعت للخصائص العامة أو المتعالية المطلوبة، في روايتها "أكثر العيون زرقة" (1970)، التي فيها فتاة سوداء تحلم بعيون "باربي".

حين يلتقي الكاتب مُنتجاً سينمائياً، يدقّق بالشروط: على الكاتب سرد وقائع، وتجنّب إصدار أحكام. عليه أنْ يكتب من المعايشة والمعاينة، لا من الإلهام. مطلوب سردٌ مطابق في جمل قصيرة واضحة، ووصف سلوكي. لا مكان للكتابة الإنشائية في السيناريو السينمائي. مطلوب نصّ خام، وكتابة مقتطعة من مأساة العالم الحقيقي. كتابة كتحديق في جرح مفتوح. مطلوب سردُ كوارث حياة السود بلغة الشارع. من الجيّد أنْ يكون الكاتب خرج من السجن، ليكون سرده واقعياً مُقنعاً ومؤسَّساً على المعايشة والمعاينة.

يختم المنتج: "لا بُدّ من عنوان رنان وواضح. لا يملأ غموض الروايات قاعات السينما، لذا يحتاج الاقتباس إلى وضوح كبير. نهاية الرواية غير مناسبة لفيلمٍ. تحتاج الأفلام إلى نهايات كبيرة". هذه خصائص أسلوبية للكتب الأكثر مبيعاً. يزعم الكتاب الذين لا تباع كتبهم أنّ الانمحاء والتنميط ثمن النجاح الجماهيري.

أيها الكاتب، لا أحد يهتمّ بقصّتك حتى تفوز. لكي تفوز، هناك وصفة أدبية وفنية تتشابه فيها خصائص البقر، ويدعمها ويتبعها الناشر والمنتج.

المساهمون