سينما كوميدية عربية.. التباس معالم

سينما كوميدية عربية.. التباس معالم

01 اغسطس 2016
(من الفيلم المغربي "البحث عن زوج امرأتي")
+ الخط -

في ظلّ الانتكاسات الخطرة التي تعانيها دول عربية عديدة، يُصبح طرح سؤال السينما الكوميديا العربية أشبه بمغامرة نقدية، تستوجب بحثاً في راهنٍ مدمَّر، وواقع ممزّق، وخيبات تنخر في جسد الجغرافيا العربية وروحها، وتعود إلى زمنٍ سينمائيّ مُشرق، وإلى مرحلة خصبة من الضحك السليم، الذي يعتمد على ركائز كوميدية في الاشتغال البصري.

وهما (الزمن والمرحلة) غائبان حالياً، لشدّة الخواء الذي يضع الحياة، الفردية والعامة، على حافة الهاوية اليومية، ما يدفع إلى بحث دؤوب عن حدّ أدنى من عيش سليم، في زمن انقلابات مدوّية، يبدو أفقها منغلقاً على خرابه، أقلّه لغاية الآن.

صناعة سينمائية!
السؤال ـ الذي يحاول إضاءة جانبٍ أساسيّ في "صناعة السينما العربية"، يعرفه متابعوها في نتاجات كوميدية بديعة، منذ أربعينيات القرن الـ20 وما تلاها من أعوام ازدهار، تنتهي لاحقاً في ثمانينيات القرن نفسه تقريباً ـ ينبثق من أولوية التعليق النقدي على معنى الصناعة برمّتها.

إذْ بات واضحاً أن مفردة "صناعة" محتاجة إلى إعادة قراءة وتحديد، وأن "صناعة سينمائية عربية" غير موجودة اليوم، كما يقول الناقد السينمائيّ التونسي خميِّس الخياطي، معتبراً أن كلمات "صناعة" و"سينمائية" و"عربية" لا تعني شيئاً، "لا ملموساً ولا مجرّداً". وهذا يأتي ضمن سياق نقدي، يرى أن هناك "سينمات عربية".

لكن المغامرة مطلوبة، لأن نتاجات سينمائية عربية مختلفة، تعكس نقيض ما يجري في اليوميّ، من خراب مدوٍّ، يُصيب أحوال العيش كلّها. ولأن وقائع عملية تؤكّد أن لهذه السينما السجالية حضوراً في مدنٍ، في مقابل غيابٍ شبه تام لها في مدنٍ أخرى.

ففي بيروت، مثلاً، تتوغّل النتاجات الفيلمية، أكثر فأكثر، في أحوال بلد يغرق في حربه الأهلية أولاً، ويخرج منها إلى سلم هشّ وناقص ثانياً، فتُصبح الكوميديا نادرة الوجود، وإنْ تكن بعض أفلامها أقرب إلى تهريجٍ لن يُشبه أبداً ما يفعله الممثل حسن علاء الدين (1939 ـ 1975)، عشية اندلاع الحرب الأهلية تلك (1975 ـ 1990)، وإن تظهر محاولات "جدّية" مختلفة، لن تستكمل مشروعها الكوميدي لاحقاً، لانعدام القدرات الذاتية والمالية، ولانتفاء الحاجة إلى الجدّية في صناعة الكوميديا.

وفي القاهرة، يزداد التهريج حضوراً، تحديداً منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع الغياب المتواصل لأقطاب الكوميديا "الجديين"، ومع تراجع القيم الفنية والجمالية والبصرية لأفلام يُشارك فيها عادل إمام (1940)، آخر الممثلين الكوميديين السابقين، المسرف في تسطيح الحكاية والكوميديا والمعالجة.

النقاش ضروريٌّ، لأن المواجهة "حامية" بين واقع عربي مهترئ ومشرذم، وسينما تحاول أن تجعل اللغة البصرية مرايا تعكس الواقع هذا، وتتوغّل في أعماقه، لتفكيكه وقراءته ومعاينة آثاره، ولرسم ملامحه وتوثيق مساراته. لذا، تعجز الكوميديا، أمام واقع كهذا، عن محاورته وإخضاعه لجمالياتها السينمائية، لشدّة خرابه وتوهانه بين أنقاضٍ واهتراءات وضياع. وعجزها نابعٌ، أيضاً، من غياب مخيّلة إبداعية، على نقيض مخيّلة إبداعية تتلاءم والحساسية الدرامية في معالجة الواقع ومساءلته.

لهذا كلّه، تفتقد الجغرافية السينمائية العربية "حيوية كوميدية"، في مقابل تنامي ظاهرة "أفلام التهريج"، في لبنان ومصر والمغرب تحديداً، ما يدفع إلى طرح سؤال "السينما الكوميدية العربية"، في راهن عربي بائس، وهو سؤال يحفر، أيضاً، في معنى السينما الكوميدية، ومدى ارتباطها بواقعها، وراهن بلادها، وحيوية النتاجات السينمائية العربية الأخرى.

كوميديا أو تهريج؟
يقول خميِّس الخياطي إن سبب غياب كوميديا عربية، كامنٌ في أنها "تتطلّب علاقة خصوصية مع المتفرِّج، اعتماداً على اللغة والحركات والبنية الدرامية"، مشيراً إلى أن زمن نجيب الريحاني (1889 ـ 1949) وإسماعيل يس (1912 ـ 1972) وعبد السلام النابلسي (1889 ـ 1968) ودريد لحام (1934) وآخرين، "قد ولّى، ولن يعود، لسبب بسيط هو أن الشاشات تستعمل، اليوم، التهريج المضحك مكان الكوميديا، بغية الترفيه، ليس إلاّ".

يندرج رأي الناقد السينمائي المصري عصام زكريا، وإنْ بشكل آخر، في السياق نفسه، إذْ يقول إن الأحداث السياسية والأوضاع الاجتماعية عموماً، "لا تناسب هذا النوع من الكوميديا "الراقية"، التي تحتاج إلى مجتمع متفائل ومنظّم، يؤمن بأن "الفوضى" يمكن أن تأتي لبعض الوقت إلى العالم، لكنها لا تستمرّ كثيراً، حيث يعود كل شيء إلى نصابه الصحيح، في نهاية الأحداث".

ويرى أن هناك "كوميديا شعبية"، وأن هذه الكوميديا، "التي تعتمد على الارتجال والتفكّك النصّي والإخراجي"، تُعبِّر عن "حياة مشاهديها وثقافتهم وعقليتهم، بشكل أفضل".

من جهته، يؤكّد الناقد السينمائي المغربي محمد بنعزيز أن هناك "صناعة سينمائية مغربية" (متكاملة)، إذ يُنتَج 20 فيلماً كل سنة، بينها أفلام كوميدية "يُحطِّم بعضها أرقاماً قياسية في المُشاهدة والصمود في القاعات السينمائية"، متوقّفاً عند حصيلة عام 2015، التي تكشف أن هناك نحو مائة ألف مُشاهد لـ"الفرّوج" (الديك) لعبد الله توكونة فركوس (مخرج الفيلم والممثل الأول فيه)، وأن العمل الذي يليه، في لائحة أكثر الأفلام الكوميدية إيرادات محلية، هو "الحمالة"، إخراج وإنتاج وتمثيل سعيد الناصري، إذْ تُباع 95 ألفاً و535 تذكرة لمُشاهدته.

يقول بنعزيز إن أفلاماً كهذه لها جمهورها، وإن إيراداتها تتجاوز، غالباً، أفضل الأفلام الأميركية في "شباك التذاكر" المغربي، وأن مشاهدة هذين الفيلمين على "يوتيوب" تبلغ مئات آلاف المرّات، وأنهما يُباعان كثيران على أقراص مدمّجة في الأسواق الشعبية. مع هذا، فإنه يُحدِّد خصائص الكوميديا المغربية بما يلي: "كثرة حضور الـ"كباريه" والفولكلور لملء الفراغات والمطاردات الكثيرة. كثرة الكلام والتعليقات التي تدغدغ الجمهور.

اعتماد الافتراضات الضمنية التي تحكم المجتمع. لذلك، فهي كوميديا مشبعة بالقيم السلبية التي يزخر بها الوعي الجمعي، عن المرأة والفقر والجوع والغباء". يُضيف أن السخرية شاملةٌ، بخصوص النساء وكيدهنّ، وبخصوص لكنة ولهجة المناطق أيضاً، "مع تمجيد رومانسية البادية".

بالعودة إلى "الكوميديا الشعبية"، يقول عصام زكريا إن هناك نظرة عامة عن الكوميديا "كنوع شعبي جماهيري"، في مقابل الدراما الجادة، "التي تروق أكثر للمتعلّمين والنخبة والطبقة المتوسطة". في حين أن خميِّس الخياطي يعتبر أن لا وجود لسينما كوميدية، "لو نحّينا جانباً مجموعة الأشرطة الرقمية التهريجية، التي تستغلّها قاعات السينما في الأعياد، وتعيش من إسقاطاتها "الاستشهارية" (الإعلانات) القنوات التلفزيونية، المنصبَّة على الإنسان العربي"، عبر شاشات تلفزيونية مختلفة.

ويرى محمد بنعزيز أن الأفلام الكوميدية المغربية تتماهى كثيراً بالتلفزيون، إذْ "يحصل ممثلوها (القادمون إلى الأفلام الكوميدية من التلفزيون) على شهرة أسرع وأكثر، وجمهورها يعرفهم بسهولة". يأتي هذا بعد إشارته النقدية إلى أن "بناء معظم الأفلام الكوميدية مرتكز على مجموعة "اسكتشات"، تسخر من سلوكات ومواقف موجّهة إلى العموم، وتُحقِّق بالتالي مُشاهدات أكثر".

ملاحظات
التقسيم بين جمهوري التراجيديا والكوميديا، الذي يعود إلى زمن أرسطو وكتابه "فنّ الشعر"، يثير لدى عصام زكريا بعض الغرابة، لأنه، بالنسبة إليه، "لا يزال قائماً لغاية اليوم، بدرجةٍ ما".

يُضيف زكريا: "هذه الدرجة أكثر حدِّة في بعض البلاد، كالهند ومصر، حيث تتّسع الفجوة بين السينما التجارية والسينما الفنية"، مشيراً إلى أن التقسيم نفسه يؤدّي إلى ميل مخرجين ومؤلّفين "جادين" إلى الدراما، وترك الكوميديا لمؤلّفين ومخرجين "أكثر خفّة"، وذلك "من دون تناسي استثناءات يُمكن أن تبيِّن خطأ هذا التوجّه، كأعمال الثلاثي الكاتب وحيد حامد (1944)، والمخرج شريف عرفة (1960)، والممثل عادل إمام".

الأكثر خفّة يتمثّل، في أفلام كوميدية مغربية عديدة، بمسائل مختلفة، يُحدِّدها محمد بنعزيز على النحو التالي، من دون التغاضي عن أن التحديد هذا يُصيب أفلاماً "كوميدية" عربية مختلفة، يصفها خميِّس الخياطي بالـ"تهريجية": "طريقة أداء "مبتذل" للممثل، الذي يتربّى ويشتهر في التلفزيون".

فهو (الممثل) "يُبالغ في كلّ شيء، كأنه يُخاطب متفرّجاً في آخر قاعة المسرح، بينما الكاميرا قريبة منه تماماً". يصفه بكونه ممثلاً نمطياً، "يُكرِّر سمات شخصيات معينة، ويضع يده على قلبه للتعبير عن الحب، ويتهدّج صوته آلياً، بشكل مفاجئ، للتعبير عن التعاسة". يُضيف أنه "يتكلّف، فوراً، الرقّة المبالغ فيها، خلال لحظات شاعرية"، ويرى أن هذه كلّها "قوالب جاهزة ومستَنْزَفة لدى ممثل سمسار، يتملَّق الجمهور".

المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي سببٌ أساسيّ في انعدام القدرة على ابتكار نصّ سينمائي كوميدي، يثير الضحك من دون "ابتذال"، ويطرح أسئلة ومآزق من دون الوقوع في التصنّع والمبالغة والادّعاء، مع المحافظة على سوية كوميدية: "نحن اليوم في عالمٍ عربي درامي ودموي ومتقطّع الأوصال، لا يبحث إلاّ عن الضحك، وما أيسر أن تُضحكه بشخصٍ يعمل على قطع "البندورة"، فيقطع إصبعه معها، ويأكله".

بهذا، يُلخِّص خميِّس الخياطي المشهد العربي على مستوى الكوميديا. لكن عصام زكريا يتوقّف عند "تقنية" الكتابة، ومعالمها: "يُقال إن كتابة الكوميديا أصعب. أعتقد أن المقصود هو أنها مهنة جادة جداً، تحتاج إلى جهدٍ وتركيز لا يقلاّن عن جهد كتابة الدراما، والتركيز عليها. جرت العادة أنها تحتاج إلى "خفّة دم" المؤلّف والممثل فقط. الذين يعملون في الكوميديا يتأثّرون بهذا التصوّر، ويتعاملون باستسهال مع مهنتهم، على أن الهدف الوحيد منها الضحك فقط. مع أنه يُمكن الحصول على الضحك بشكل أفضل، عبر مجالات أخرى غير السينما، كالنكتة، أو السيرك، أو برامج المقالب".

هذه صورة عامة عن واقع بائس، تعيشه السينما الكوميدية العربية حالياً، في راهنٍ منذور لخرابٍ عظيم. صورة تستدعي نقاشاً إضافياً، يتناول، أيضاً، الجوانب المختلفة لمآزق السينما العربية برمّتها.


المساهمون