الأرض بتتكلّم "شارلي"

الأرض بتتكلّم "شارلي"

23 يناير 2015
+ الخط -
الأرض تتكلّم "شارلي"، هذه الأيام، قياساً على عنوان أغنية سيّد مكاوي، "الأرض بتتكلّم عربي". وتلك أغنية جميلة تفخر كلماتها بعروبتنا...، ولكنّها غير مسموعة في واقعنا الثقافيّ الحالي الذي تغلب عليه فنون الإثارة والاستهلاك السريع لمعلّبات "الواوا" وسندويتشات الطعم الواحد المتكرّر لشعبان عبد الرحيم وأمثاله، بالإضافة إلى هيمنة الأغنية الغربيّة على ذائقة شبابنا في غير بلد عربيّ... وبهذا الإيقاع السريع، يطوي النسيان أعمالاً فنيّة كثيرة مازالت قادرة على الصمود في وجه عولمة تهدّد بالزوال نعمةَ التعدّد والتنوّع على مستوى الثقافات والهويّات.
من أنا اليوم؟ أكاد أجيب في سياق التضامن الشعبويّ مع ضحايا الجريدة الفرنسيّة المنكوبة: "سجّل أنا شارلي"، وأعتذر لروح محمود درويش على التحريف...، فعرب اليوم معنيّون بكلّ ما يدور من حولهم، وقد ركبوا مع غيرهم موجة التعاطف العالميّ مع فرنسا وصحفيّيها الأحرار جدّاً، وشاركوا في المظاهرة الباريسيّة مع أطيب زعماء العالم وأكثرهم دفاعاً عن السلام، وفي مقدّمهم بنيامين نتنياهو. أمّا الذين انتقدوا حضوره فلا يفهمون جيّداً (فلسفة الإرهاب)، ولذلك يعبّرون عن حيرتهم كما فعل أردوغان، قبل أيام في مؤتمر صحافيّ مشترك مع محمود عباس، حيث تساءل كمن يغرّد خارج السرب: "كيف يمكن لرجل قتل 2500 شخص في غزّة في إرهاب الدولة أن يلوّح بيده في باريس؟ كيف يجرؤ على الذهاب إلى هناك؟ يتعيّن عليك، أولاً، أن تتحدّث عن الأطفال والنساء الذين قتلتَهم؟"
"فلسفة الإرهاب"، وقواعد اللياقة الدبلوماسيّة، والقوانين التي تعاقب الذين يجاهرون بمعاداة الساميّة، ترفض أسئلة أردوغان وتتجاهلها، فقد عفا عليها الزمن، ولم تعد مواكبة لروح
العصر. ومع ذلك، أطنب الرئيس التركيّ في الحديث عن "عربدة " إسرائيل وتهاونِ مجلس الأمن في التصدّي لها، ما يدلّ على خلل إجرائيّ، سببه على الأرجح، ذلك الكوجيتو القديم: أنا أفكّر، إذن أنا موجود... فبدون أدنى تفكير، يدرك أردوغان، إذا أراد، أنّ أغلب زعماء الأرض لا يفكّرون مثله، وقد بدّلوا ملكة التفكير بموهبة التغريد داخل السرب، لا خارجه.
يغرّد الملايين على مواقع التواصل الاجتماعيّ مردّدين: "أنا شارلي"، الكوجيتو الجديد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وأصبح علامة مسجّلة لمحاربة الإرهاب وحماية حريّة التعبير. ومثل تلك العلامات التي تصنع بجودة عالية تعود ملكيّتها الفكريّة وبراءة اختراعها حصريّاً للدول العظمى، مثل فرنسا وأميركا، وتقتات منها دولة مستضعفة بعينها تحظى بالحماية الأبديّة هي إسرائيل. وعليه، فإنّ تقليد تلك الصناعة أو منافستها بسلعة مقلّدة أمر محرّم ومرفوض، يعاقب عليه القانون، ويُحاصر برسوم ثقيلة و(مسيئة)، ولا يحظى بالاهتمام نفسه من الزعماء ووسائل الإعلام وعامّة الناس... وفي هذا السياق، ارتفعت، من دون جدوى، أصواتٌ تذكّر بضحايا غزّة ومنكوبي سوريّة وشهداء ميدان رابعة العدوية في ردّة فعل تشير إلى الإرهاب الآخر المسكوت عنه، الإرهاب "الحلال" الذي لا يفلح في صناعة ما يسمّى، في لغة الإعلام البديل، (buzz) والكلمة حديثة دخلت المعاجم الفرنسيّة سنة 2010، ويترجمها محرّك البحث "جوجل" إلى العربيّة بمقترحات منها الطنين والإشاعة والدويّ، ويضيف إليها تعريباً طريفاً يتعلّق بالمدمنين على الموبقات فهي "الشرب حتّى الثمالة". وتنطبق تلك الترجمة على كلّ من يعاقر "فيسبوك"، ويدمن على تصيّد "لايكات" المعجبين بمنشورات مستفزّة، تقوم على كلّ أصناف المغالطات والأكاذيب والمسّ بأعراض الناس، والاعتداء على المقدّسات.
وبتلك الأبعاد، تدلّ عبارة الـ (buzz ) على أخطر فيروس يهدّد عالمَيْن، يستفيد كلاهما من الآخر، هما عالما الصحافة والسياسة، وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعيّ في صناعة هذا الداء، بقصد أو بغيره، بعد أن أصبحت وسيلة حيويّة لنشر الأخبار والمواقف والصور ومقاطع الفيديو وكلّ ما يصلح للإثارة في فضاء افتراضيّ، يغذّيه إقبال ملايين الناس على التفاعل ومتابعة ردود الأفعال، حتّى أصبحنا نشاهد في منابر التلفزيون الصحافيين، وضيوفهم من رجال السياسة، متأبطّين شرّ الحواسيب اللوحيّة، والهواتف الذكيّة، فلا يكفّون عن لمزها وهمزها، وتلمّس شاشاتها لمراجعة ما يصل إليهم من الملاحظات والتعاليق ونقرات الإعجاب. وبسبب الرغبة المتصاعدة في استفزاز الآخر، لم تخل هذه الظاهرة الإعلاميّة من مزالق وانحرافات خطيرة، أدّت إلى نتائج كارثيّة، آخرها هجمات باريس.
هل كان الصحافيّون الفرنسيون بحاجة إلى ذلك الاختبار، لمعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه حريّتهم في التعبير؟ بالتأكيد لا... فالجميع يعلم أنّ فرنسا بلد الحريّة التي تسمح بالإساءة إلى الأرباب والأنبياء والمسلمين، لكنّها لا تحتمل تغريدة من الفنان الساخر، ديدوني، الذي يُمنع من تقديم عروضه على مسارح فرنسا ويُحاصر بقائمة طويلة من القضايا تتهمه بالتهرب الضريبي ومعاداة السامية والإشادة بالإرهاب. فرنسا بلد الحريّة بمكيالين، وفي ذلك قال الحقّ: "ويل للمطفّفين".


42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.