رئيسنا الذي "جاءت به الثورة"

رئيسنا الذي "جاءت به الثورة"

08 يناير 2015

مصافحة بين السبسي والغنوشي (11 مايو/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -
يثير سؤال "لماذا قمنا بالثورة؟" شجوناً كثيرة لدى التونسيّين، ويلخّص بروح الكوميديا السوداء مفارقات أفرزتها نتائج الانتخابات، أخيراً، بسبب انتصار الباجي قايد السبسي الذي بُعِثَ من غيابات النظام القديم، ليصبح رئيساً للجمهوريّة الثانية، وهو لا يؤمن بثورة شعبها، ولا بأهدافها. ولو سئل "لماذا قمنا بالثورة؟ لأجاب بسخرية عادل إمام: "أنا لا أعلم لماذا قمنا بالثورة..."!، وهي إجابة تلائم موقفه المناهض لشبابها وشهدائها، وتناسب منطق تقاعده الطويل، بحكم ابتعاده عن مسرح السياسة عقدين.
لكن، ليست الصورة قاتمة تماماً، ولعلّ من المفيد للتونسيّين أن يفخروا بما يُقال لهم، بين حين وآخر، في إطار مديح منجزات الانتقال الديمقراطيّ. فما يُكتب عن بلادنا في الصحف العالميّة يدعونا إلى الاعتزاز بتنظيم "الانتخابات النزيهة الشفافة"، وما أعقبها من مراسم نقل السلطة في أجواء احتفاليّة يتبادل فيها رئيسان التحيّة، ثمّ يغادر الذي انتهت ولايته إلى بيته، تاركاً قصر قرطاج لخليفته الجديد، فذلك المشهد لا يُرى إلّا في البلدان الغربيّة المتقدّمة على جميع الأصعدة. وفي عالمنا العربيّ، ليس لنا تقاليد عريقة في مجال التداول السلميّ للحكم. لذلك، تمثّل التجربة التونسيّة منوالاً لتعميمها وحدثاً فريداً أشاد به المتفائلون، وفي مقدّمتهم راشد الغنوشي الذي اعتبره "عرساً انتخابيّاً"، ودعا الشعب إلى الاحتفال "بنجاح المسار الديمقراطيّ"، ولكنّ تفاؤله بلغ درجة أثارت سخرية "المتطيّرين" الذين يخشون عودة النظام السابق. وقد رفض رئيس حركة "النهضة" في ردّه عليهم المقارنة بين المخلوع بن علي وقايد السبسي، لأنّ الأوّل "انقلابيّ" مستبدّ، والثاني "رئيس منتخب ينتمي إلى الثورة"، كما قال في حوار تلفزيونيّ، مؤكّداً أنّه "يثق به تمام الثقة". والطريف في هذه الوجهة أنّها لنْ ترضي حتّى جمهور "النهضة" الذي صوّت للمنصف المرزوقي، على الرغم من توصية الحياد المعلنة في الموقف الرسمي للحركة.
ويعزّز التنافر المتزايد بين قيادة الحركة وقواعدها فرضيّة انسحاب أعداد كبيرة من النهضويّين، ليلتحقوا بحراك "شعب المواطنين" الذي يجري تشكيله بزعامة المرزوقي. لكنّ ذلك الخطر لا يؤثّر على تفاؤل الغنوشي، ولا يثير مخاوفه من هجرة جماعيّة، تهدّد شعبيّة حزبه، فقد اعتبر "أنّ أنصار النهضة مطمئنّون ومقتنعون بأنهم يناضلون في حركة لها مستقبل". وتمثّل عبارة "مستقبل"، الكلمة المفتاحيّة التي تفسّر مواقف للنهضة كثيرة مثيرة للجدل، إذْ يتطلّب صمود الأحزاب وضمان استمرارها جملة مراجعات، تؤدّي، في أحيان كثيرة، إلى تنازلات قاسية، لكنّها مفيدة بمنطق الحكمة التي تقول: "ليس على القائد أن يفكّر في الانتصار دوماً، وإنّما عليه أن يدرك الوقت المناسب للتخلّى عنه". وهكذا، تخلّت قيادة "النهضة" عن تقديم مرشّح للانتخابات الرئاسيّة، واستبشرت بتراجعها في الانتخابات التشريعيّة، ومازالت تؤكّد حرصها على التوافق والتعاون لمصلحة الوطن، قبل مصلحة الحزب، وذلك كله لإقناع خصومها بجدّيّة التحوّلات العميقة التي تعيشها "النهضة"، باعتباره حزباً تونسيّ الهويّة، يؤمن بالديمقراطيّة، ويشارك في الانتخابات ويقبل بنتائجها، وينخرط في الحكم أو في المعارضة بطريقة سلميّة، بعيدة كلّ البعد عن ثقافة العنف ونزاعاته.
وفي السياق نفسه، أحصى الغنوشي، مصرّحاً للصحافة المكتوبة، التنازلات التي قدّمتها حركته
من أجل التحوّل إلى "حزب وسطيّ معتدل"، ينبذ التوجّهات الراديكاليّة، فقال: "تخليّنا عن قانون تحصين الثورة، وتخلّينا عن الفصل 167 من القانون الانتخابيّ الذي يقصي التجمّعيّين، وتخلّينا عن عامل السنّ الذي يقصي السبسي، وعن الشريعة في الدستور. ذلك كله جعل من النهضة حزباً وسطيّا يرسّخ فكرة الاعتدال، بعد أن كانت مصطفّة إلى جانب الأحزاب التي تَنسِبُ نفسها إلى الثورةِ في زمن لا ثوريّ، وفي زمن وفاقيّ، وفي زمن تَساقُطِ الثورات العربية". واللافت في كلام الغنوشي أنّه لا يجد حرجاً في التنازل، إلى حدّ التبرّؤ من الثورة التي منحته حقّ التواجد في المشهد السياسيّ، وأوصلت حزبه إلى الحكم، بعد أوّل انتخابات حرّة سنة 2011. ويبرّرُ ذلك "التخلّي" عن الخطّ الثوريّ، بنتيجة الانتخابات الأخيرة التي "أقصت الأحزاب الثوريّة، لأنّ الشعب اختار أحزاب الوسط، النهضة والنداء"، على حدّ تعبيره.
ولعلّ العلاقة اللغويّة التي تقوم على العطف بين "النداء" و"النهضة"، تلخّص الغاية من التنازلات التي ذكرها الغنوشي، كونها لفائدة "المعطوف عليه": السبسي وحركته، فقد مكّنته تلك التشريعات التي أقرّها المجلس التأسيسيّ من دخول الانتخابات، والفوز بشرف قيادة البلاد فترة مريحة، مدّتها خمس سنوات. وتذكير الغنوشي بتلك التنازلات، أو التسهيلات الدستوريّة، في أثناء فترة المشاورات لتشكيل الحكومة الجديدة، يبعث رسائل مفهومة لكلّ من يهمّه أمر الإسلاميّين في الداخل والخارج. وقد بادر السبسي بالردّ عليها، فعبّر عن "تـطلّعه للعمل مع الغنّوشي"، مؤكّداً، في تصريح لصحيفة واشنطن بوست، أنّ تونس ستثبت نجاح الديمقراطية في الدول العربيّة.
فهل سيكون السبسي في مستوى ثقة الغنوشي، أم أنّ الكفّة سترجح لصالح الجهات التي تطالب بإقصاء الإسلاميّين، وقطع الطريق عنهم بضغوط يأتي بعضها من الخارج، وتترجمها بيانات معادية من أحزاب تونسيّة؟
سيجيب "الزعيم" السبسي، في الأيام القليلة المقبلة، عن ذلك السؤال من خلال تشكيلة الحكومة المنتظرة. فإمّا أن يكون الجواب ملائماً لواجب ردّ الجميل (بمنطق المصلحة الحزبيّة المتبادلة، فينصف "النهضة" ويشركها في الحكم، أو أن يخيّب أفق انتظارها وانتظار أنصارها، ويكتفي بمشهد مسرحيّ ساخر لممثّل بارع أقنع الغنوشي بأنه ثوريّ ...، ولكنْ مزيّف!
 
 
 
42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.