الأردن.. حراك يُسائل الرزاز

الأردن.. حراك يُسائل الرزاز

02 ديسمبر 2018
+ الخط -
لعلّ أبرز ما ميّز حراك أول من أمس الجمعة (30/11/2018) في عمّان تنوّعه وعدم اتساق نوعه، الكل في مستوى العمر الشبابي العام (18- 45)، وهم من مختلف البيئات، لا ملامح للتمويل المبرمج أو العامل الخارجي فيه، هو حركة احتجاجية اجتماعية صرفة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار معرفة الدولة بالتفاصيل، فرجالها كانوا مغروسين وسط الجمع الذي لم يكن يتوقع أن يرفع الشعارات ضد رئيس الوزراء، عمر الرزاز، في هذا الوقت القصير على عمر حكومته.
ما الذي حدث؟ هناك حالة إنكار للهزيمة التي يرى الشعب أنه ذاقها بعد إقالة حكومة هاني الملقي بداية يونيو/ حزيران الماضي. رحب الشارع آنذاك بالرزاز، باعتباره مخرجاً ديمقراطياً وطنياً، ونزعاً لفتيل أزمة كبيرة. وعلى وقع التفاؤل والأمنيات التي حذر الرزاز لاحقاً من تضخيمها، جاءت حكومته، في تشكيلتها الأولى، برأي كثيرين لا تختلف كثيراً عن سابقتها.
انعقد مجلس النواب، في دورته الاستثنائية بعدها، وسحبت الحكومة مشروع قانون الضريبة، تفاعل الجميع بإيجابية مع قرار الرزاز، لتبدأ الحكومة معركة ناعمة، في سبيل قانونها الجديد بنسخته التي أقرّها مجلس النواب أخيرا، وقد حقق مجلس النواب تحسّناً كبيراً على المشروع، أو على الأقل نجح في تعديل سقف الإعفاء الضريبي، ليصل إلى نحو 23 ألف دينار.
في طريق الإقرار والحوار على مشروع القانون، كانت هناك سلسة حوارات وهزائم لحكومة
 الرزاز، بيّنت عدم الانسجام في الفريق الحكومي وضعفه، فجاء التعديل المبكّر، والذي لم يشفِ رغبات الناس، خرج وزراء وجيء بآخرين. ثم وقعت حوادث السيول والغرق التي قد تواجهها أي حكومة في أي بلد، ولكن سبقها تلذذ الناس في الأطراف بإفشال الحوار مع ممثلي الحكومة من الوزراء حيال مشروع قانون الضريبة، وهناك حدثت انتصارات شعبية على وفد الحكومة المفاوض والمحاور لجماعةٍ لا علاقة لهم بسقف القانون وإعفاءاته المالية، فجل القاطنين في الأطراف موظفو قطاع عام. ترتسم النهاية، بعد حادثة البحر الميت، باستقالة وزيرين، وانتظار الناس تقرير اللجنة التي شكلها الملك للتحقيق في أوجه التقصير، والتي ربما تؤثر نتائجها في التعديل الثاني الوشيك على حكومة الرزاز.
أظهر مسار الحكومة في التعامل مع الأزمات ضعفاً للقطاع العام، بل تراجعا له، وتزامن هذا مع جدل مشروع قانون الجرائم الإلكترونية الذي يرى غالب الناس أنه جاء لتكميم أفواه الناس عن النقد، وسط سخط شعبي يتفاقم جرّاء نهج الإفقار والفساد وإفلاس النخبة. ولا شيء يحدث بعد إقرار البرلمان قانون الضريبة الجديد، بل تقلل الحكومة أسعار النفط في بادرة حسن نيات، فيعلن حراكيون نيتهم العودة إلى الدوار الرابع (حيث مقر رئاسة الوزراء في عمّان)، والذي تم فيه إسقاط حكومة هاني الملقي، فتغلق عناصر مجهولة المجال العام، بتلويث مقر الاحتجاج باستخدام "زيت الزفتة"، ويضرب المجال العام الاتصالي بتقليل فاعلية شبكة الإنترنت التي اشتكى الناس من تقطع خدماتها.
يلتقي المحتجون بعدد جاوز الألف، وسط تنكّر كل النقابات والأحزاب والتيارات وتبرُّئها من الخروج أو النية لذلك، لكن اللقاء يتمّ، يشترك فيه طلاب جامعات وشباب متعطل وموظفون راغبون في مزيد من الإصلاح، ورفض تقييد الحريات، ويهتفون بالحرية لبعض معتقلي السجون، أمثال المهندس سعد العلاوين، ويسألون الرزاز عن وعوده ومطالبته بثقافة الأمل ورفض الإحباط والسخط.
لا يعيد الشباب المحتج ساعتهم إلى الوراء، فقانون الضريبة صار وراء ظهورهم، لكن المطلوب الأول عندهم صار رئيس الحكومة، والذي رفعوا شعارات عنه بأنه نسخة موازية لسلفه هاني الملقي. ومما لوحظ في حراك الجمعة الإعراض عن أي هويةٍ للاحتجاج، غير الهوية الوطنية، لا نقابات ولا أحزاب ولا دولة مدنية تتبناه. كانت الشعارات نابعةً من وجع يومي اجتماعي واقتصادي، عنوانه الإفلاس وصرف المال، مع ملاحظة تفاهم ضمني بين المحتجين، لا يغالبهم عليه أحد، مؤداه المطالبة بتغيير الخيارات الوطنية في الاقتصاد والحرية للمعتقلين ومحاربة الفساد.
لم تكن الديمقراطية حاضرة، بل صب المحتجون غضبهم على مجلس النواب، وأغدقوا عليه قدحاً، وفي وقت مارست قوات الدرك والأمن انضباطاً عالياً، إلا أن الدولة العميقة كانت ترى أن الوقفة الاحتجاجية معقولة وتحت السيطرة، وأنها سوف تتلاشى مبكّراً. حتى وإن حدث ذلك، فإن تبسيط الأمر، واعتبار أن ما جرى غيمة عابرة لا يجدي، ولا يعيد الناس إلى بيوتهم، بل إن ما حدث يتميز بالآتي: هو احتجاج الشرائح التقليدية ذات الصبغة الولائية التقليدية للدولة والحكم، ممزوجاً بالتعليم والمعرفة، وهي رسالةٌ مفادها بأن المجتمع، حين تغيب عنه الأطر المؤسّسية في التعبير الاعتراضي، أي غياب النقابات والأحزاب، قادر على أن يتولى نفسه، ويخرج بشكل منظم. وهي رسالة أيضا تفيد بأن اقتراب عمر الرزاز من الدولة الريعية، لا يعد إصلاحاً برأيهم، بل انتصار لنهج ليبرالي ملأ البلد خيباتٍ وفشلاً.
يحدث هذا كله في ظل رغبة المجتمع الناهض من كبوة فقره إلى حالة رفض الاستسلام لفشل السياسات المالية، والعجز عن الإصلاح السياسي الحقيقي، فيعود الناس إلى طرح الأسئلة الكبرى في ظل نظام حكم مفتوحٍ غير مغلق، ولديه رادارات كثيرة، تلتقط كل إشارات التحذير. وفي مقدمة التحشيد السياسي، التقط رادار الدولة العميقة تحذيرات رئيس وزراء الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، والتي أطلقها في جمعية الشؤون الدولية بعنوان "الأردن على الحافّة"، مطلقاً صيحة متأخرة بعد صمته أكثر من عامين، بعد خروجه من رئاسة مجلس الأعيان، لكنها 
صرخةٌ بدت مدويةً وسط بيروقراط الدولة وعتاتها الذين يشلكون معظم أعضاء جمعية الشؤون الدولية التي تضم طيفاً عريضاً من وزراء ورؤساء حكومات وساسة وقادة جيش. تحدث الرجل بغضب، أغضب كثيرين، وهاجم التيار الليبرالي، والهابطين على مائدة الدولة بحداثة العهد في الخبرة، وليس في المواطنة. لكنه أيضاً واجه النقد على المجتمع الافتراضي بصيغة: "حين كنت وزيرا ونائبا ورئيس حكومة وعيناً ماذا فعلت"؟. ولكن الرجل أثار الجدل، وأعاد تحديد ملامح الخصومة والمخالفة والمعارضة للتيار الذي يمثله الرزاز. وبدت المحاضرة أكثر من بيان فردي، أو رأي خبير عليم، بل هي أقرب إلى رسالة تنبيهٍ تحظى بـتأييد "حزب جمعية الشؤون الدولية" غير المعلن رسمياً، لكنه موجود، ويشكله المحافظون والبيروقراط وكهنة الدولة.
صفوة القول: في صلب الصورة العامة، ملّ الأردنيون الوعود، وجاء مشروع عمر الرزاز التكافلي الاجتماعي الذي يرغب في الانتقال إلى دولة الإنتاج، والذي اعتبره مشروع نهضة وطنية، في زمن ضائع وطنياً، فقد أثقلت الحكومات البلد عجزاً وقلّت الثقة بها، بل هي غائبة تماماً، والظرف الراهن لا يساعد الرزاز كثيراً.
هل ستتحسن ظروف البلد اقتصادياً، بعد سريان قانون الضريبة؟ ربما يكون هذا ما حدا الرئيس الرزاز إلى عقد خلوات طويلة لحكومته، بحثاً عن سبل تحقيق النمو الاقتصادي الذي يبدو ممكناً في ظل تحولات الإقليم، وعودة الهدوء، وفتح معابر الحدود شرقا وشمالاً. هنا تصبح حلول الوجع الاقتصادي الأردني في الجوار، وليس في الداخل، وهذا ما يعمل لأجله الرزاز عبر استعادة العلاقة مع العراق وترطيبها أو استعادتها مع سورية.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.