استراتيجيات استهداف الديمقراطية التونسية

استراتيجيات استهداف الديمقراطية التونسية

27 يوليو 2020
+ الخط -

على مدى عشر سنوات مما تلى الثورة التونسية، ورحيل الديكتاتور زين العابدين بن علي، ظلّ معظم التونسيين يراكمون الجهد لإنتاج حالة ديمقراطية بديلة من الدولة الشمولية. وتجلّى ذلك في خوض المواطنين استحقاقات انتخابية متعدّدة، واختيارهم ممثليهم في البرلمان، وفي قصر الرئاسة، وفي البلديات، بطريقة نزيهة، شفافة، جسّدت الديمقراطية التشاركية، والتداول السلمي على السلطة. وجرى، في السياق نفسه، تأمين الحرّيات العامّة والخاصّة بشكل غير مسبوق في تاريخ تونس، على نحوٍ مكّن المواطن من المشاركة فعلياً في الفضاء العام والمساهمة في صناعة القرار. وتمكّن الاجتماع التونسي من إنتاج دستور تقدّمي، توافقي، قطع على الرغم من بعض نواقصه مع حقبة الحكم الرئاسوي، الأحادي، وشرّع للتوازن بين السلطات، وسمح بإحداث مؤسساتٍ مدنيةٍ، رقابية لتعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد، وحماية مدنية الدولة، وترسيخ دعائم دولة حقوق الإنسان ومشروع الدمقرطة. لكن بالتوازي مع تلك النقلة الديمقراطية النوعية، ظلّت فئة قليلة من التونسيين، من أتباع الثورة المضادّة، تراكم الجهد بالتعاون مع لوبياتٍ في الداخل والخارج، لشدّ الناس إلى الخلف، وردّ البلاد إلى مربّع الدولة الكليانية. واعتمدت لتخريب التجربة الديمقراطية الوليدة استراتيجياتٍ عدّة، أهمّها بثّ الإرهاب والترهيب، ومحاولة استقراب المؤسسة العسكرية، وتوظيف أدوات الديمقراطية لتقويض الديمقراطية، وتشويه مخرجات الثورة ومسار الدمقرطة. 
استهدفت تونس خلال عقد من قيام الثورة عمليات إرهابية دامية، ذهب ضحيتها عناصر من القوات المسلّحة ومن المدنيين. وكلّما قطعت البلاد خطواتٍ معتبرة على درب التأسيس الديمقراطي والإصلاح السياسي، ظهر مارد الجماعات الإرهابية التي تغذّت من خطاب الكراهية والتطرّف، ومن سياسات التهميش، ومن المال الفاسد القادم من الداخل والخارج لتقوم بأعمال اغتيال وترويع، شملت سياسيين وعسكريين وسيّاحاً، وكان الغرض إرباك المسار الانتقالي، وزرع الخوف في نفوس النّاس وترهيبهم، وإقناعهم بأنّ الثورة لم تجلب لهم سوى الوبال، وأنّ الديمقراطية لم توفّر لهم الاستقرار والأمان، وبدا واضحاً لجلّ التونسيين أنّ مهندسي الإرهاب وأعوانه إنّما يريدون تقويض السلم الاجتماعي، وتفكيك الدولة، ويلتقون مع أعلام الثورة المضادّة عند مطلب تيئيس الناس من الديمقراطية، والعمل على شيطنة الثورة. وعملياً، لم تنجح استراتيجية الإرهاب والترهيب في تفريق التونسيين، وثنيهم عن مواصلة البناء الديمقراطي، بل ساند المجتمع التونسي القوّات المسلّحة في مواجهة الخطر الإرهابي، وظلّ كتلة صمّاء طاردة للغلوّ والعنف والتطرّف. وبعد كلّ عملية إرهابية، بدا التونسيون أكثر لُحمةً ووحدةً وتصميماً على مواصلة مشروع الدمقرطة الشاملة.

بعد كلّ عملية إرهابية، بدا التونسيون أكثر لُحمةً ووحدةً وتصميماً على مواصلة مشروع الدمقرطة الشاملة

وأمام فشل تلك الاستراتيجية، اتجه دعاة الشدّ إلى الخلف إلى المؤسّسة العسكرية، يرومون استقرابها حيناً، واحتواءها حيناً آخر، واستحضار رمزيتها، بشكل أو بآخر، في حملاتهم الدعائية، والاحتجاجية، والأيديولوجية الموجّهة. والمراد زجّ الجيش التونسي في حمأة التجاذبات السياسية، والاستقواء به، لتلبية رغبة بعضهم في التنكّر لنتائج صندوق الاقتراع، أو لجموح آخرين إلى الانقلاب على الديمقراطية أو لتصفية حسابات مخصوصة مع طرف حزبي معيّن. لكنّ المؤسّسة العسكرية تميّزت بدرجة عالية من الحرفية، ولزمت الحياد إزاء كلّ الفرقاء السياسيين. وأكّدت مراراً أنّها معنيّةٌ بحماية الحدود، والمسار الديمقراطي، والدولة المدنية والمؤسسات السيادية، وأنّها حريصةٌ على احترام الدستور، والإرادة الشعبية، وغير معنية بالانخراط في السياسة والتنافس على الحكم. وهذا التوجّه الوطني المسؤول لا يروق دعاةَ استعادة الدولة الشمولية/ الأحادية.

على صعيد آخر، وجد أتباع الثورة المضادّة في مناخ الحرّيات المشهود في البلاد فرصة لتوظيف الأدوات الديمقراطية لإنهاك التجربة الديمقراطية التونسية ذاتها، وتجلّى ذلك بكثرة الاحتجاجات العشوائية والفوضوية التي عطّلت الحركة الاقتصادية، وأربكت المشاريع الاستثمارية، وجعلت الانتقال الديمقراطي بلا سندٍ تنموي مستدام، ناجع وشامل. يضاف إلى ذلك ظهور حملات مشبوهة للتحريض على مؤسسات الدولة السيادية، وتعطيل عملها، في خرقٍ واضح لمحامل الدستور. وتبدّى ذلك بنحو لافت للنظر أخيراً في استيلاء ما تسمّى كتلة الحزب الدستوري الحر، سليل الحزب الواحد الحاكم قبل الثورة (التجمع الدستوري الديمقراطي)، على منصّة رئاسة البرلمان، بدعوى ممارسة حقّ الاعتصام! وعطّلت تلك الكتلة انعقاد جلسات البرلمان، ومنعت التئام الجلسة العامّة المخصّصة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وتعلّلت رئيسة ذلك الحزب الأقلّي برغبتها في إطاحة رئيس البرلمان راشد الغنوشي. والحال أنّ تغيير الرّجل الذي لم يبلغ ذلك المنصب على ظهر دبابة، بل بأصوات الناخبين، يفترض أن يكون بالطرق القانونية، لا باستخدام العنف وترويج خطاب الكراهية، وتعطيل المرفق العام واستهداف مصالح التونسيين. ويعدّ ذلك مخالفة صريحة لنصّ القانون.

اتجه دعاة الشدّ إلى الخلف إلى المؤسّسة العسكرية، يرومون استقرابها حيناً، واحتواءها حيناً آخر، واستحضار رمزيتها

ولا ينفع في هذا السياق التحجّج بالحصانة البرلمانية. فقد جاء في الفصل الـ69 من الدستور التونسي أنه "في حالة تلبس النائب بالجريمة، فإنه يمكن إيقافه، ويُعلَم رئيس المجلس حالاً على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك". وتكمن خطورة هذا النمط من الاحتجاج الفوضوي، غير المسؤول، في أنه عطّل سَيْر مؤسسة سيادية منتخبة، يتقاضى أعضاؤها مرتباتهم من الخزينة العامّة، ومن كدّ التونسيين، ويُفترض أن تضطلع بدورها التشريعي والرقابي على أكمل وجه. وقد حمل تعطيل هذه المؤسسة طيّه استهانة بأصوات الناخبين، ورغبة في ترذيل الحياة السياسية عموماً، وفي تخريب التجربة الديمقراطية من الداخل، وإظهار البرلمان في صورة المؤسّسة العاطلة، العاجزة عن إدارة الشأن العام. ويبدو أنّ تلك الفئة القليلة تروم، على مدىً ما، قريب أو بعيد، الدفع نحو حلّ البرلمان، واستثمار خطابها الشعبوي، الإقصائي، المتطرّف، لاستتباع معظم أنصار النظام القديم وتوظيفهم لإنتاج مشهد سياسي مضادّ للديمقراطية.
والثابت أنّ طابور الثورة المضادّة في تونس اعتمد، بشكل دائم، استراتيجيّة شنّ حرْبٍ إعلاميّة شعواء، لا هوادة فيها على الثورة ورموزها وعلاماتها ومؤسّساتها ومُخرجاتها، وعلى الديمقراطية ومنجزاتها، ونشطت في هذا الشأن وسائل إعلام في الداخل والخارج، ومراكز بحث وشركات استطلاع رأي مشبوهة، ومواقع ويب وصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي، مدجّجة بالمال الفاسد، وبأدوات فبركة الشائعات، وقلب الحقائق. والمراد تزييف الوعي الجمعي، وإنتاج رأي عامّ مضادّ لحركة التغيير والإصلاح. وجرى في هذا السياق تحويل محمّد البوعزيزي من أيقونة، تحدّت سطوة الدولة القامعة، إلى محنة. وكذا اعتبار الثورة مؤامرة، والديمقراطية بدعة غربية، لا تنفع التونسيين خصوصاً، والعرب عموماً. وجرى التهوين من قيمة المنجز الحقوقي والدستوري بعد الثورة، والتشويش على مسار العدالة الانتقالية وكشف الحقيقة، وشُوِّه الذين قارعوا الديكتاتورية وهُمِّشوا، وتصدّرت المشهد الإعلامي وجوه مكرورة، قديمة، مسكونة بهاجس إقصاء الآخر، وتبييض النظام القديم، وتأمين إفلات رموزه وأعوانه من المساءلة والمحاسبة. والقصد من تلك الديماغوجيا الإعلامية المكثفة المراهنة على اعتبار الثورة والديمقراطية قوساً يجب أن يُغلق، والعمل على استعادة النظام الرئاسوي الشمولي البغيض الذي جثم على صدور التونسيين طويلاً، ولم يحقّق التقدّم المنشود.

وجد أتباع الثورة المضادّة في مناخ الحرّيات المشهود في البلاد فرصة لتوظيف الأدوات الديمقراطية لإنهاك التجربة الديمقراطية التونسية ذاتها

يكابد الديمقراطيون والوطنيون من أطياف مختلفة في تونس من أجل بناء دولة قوية، ديمقراطية، تعدّدية، عادلة، جامعة، بذل من أجلها التونسيون على مدى عقود جهدهم، ووقتهم، وأرواحهم، وضحّوا بالغالي والنفيس، من أجل أن يروا تونس في مصافّ الدول الحرّة. وقد حقّقت البلاد مكاسب حقوقية مهمّة بعد الثورة، وبلغت شأناً معتبراً من الدمقرطة. لكن بعضهم في الداخل والخارج يضيقون بما تحقّق في هذا المجال، ويرومون تهشيم المنجز الديمقراطي، وعلاماته، ورموزه، ومؤسّساته ومخرجاته. وحريٌّ بمكوّنات المجتمع المدني الحزبية، والنقابية، والجمعوية الحيّة، بذل الجهد لفضح مغالطات فلول الثورة المضادّة، وتعميم الوعي بقيمة التغيير والدمقرطة، والوقوف صفّاً واحداً في وجه محاولات استهداف التجربة الديمقراطية، ودعاة تبديل هيئة الدولة بالقوّة والتزييف والإقصاء، لأنّ هدم المنجز الديمقراطي انقلاب صريح على الدستور وعلى الإرادة الشعبية، وتنكّر لتضحيات أجيال من المناضلين والحقوقيين، والنقابيين، وسجناء الرّأي، والشهداء الذين قارعوا الاستبداد طويلاً، وهو إلى ذلك إجهازٌ على حلم الأجيال الصاعدة ببناء دولة جمهورية، ديمقراطية، مزدهرة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.