أن تكون عدو نفسك

أن تكون عدو نفسك

24 أكتوبر 2018
+ الخط -
تعدّ السياسة، بالتعريف، فعلا عقلانيًا رشيداً، يهدف إلى تحقيق أقصى منفعة بأقل كلفة، وإذا انتفت صفتا الرشد والعقلانية عن الفعل السياسي، يبقى فعلا لكنه لا يعود سياسيا، إذ ينتفي معناه لانتفاء صفاته، المرتبطة به، هذا ما اتفق عليه جمهور الفقهاء المعاصرين في تعريف الفعل السياسي. أما عند القدماء، فالسياسة أعمق من ذلك، إنها قرين الحكمة، كما يرى ابن المقفع (106 - 145هـ) في كتابه الشهير "كليلة ودمنة"، فهي "حسن التدبير وإجادة التقدير وإدراك العواقب واتقاء الشرور والمخاطر".
إذا استعنّا بقديم أدبيات السياسة وحديثها لمحاولة فهم ما تقوم به السعودية من أفعال، وما تروم تحقيقه من أهداف، لوجدنا صعوبةً في إطلاق صفة "سياسة" عليه، ذلك أنك تجدها مهما فعلت، وكيفما تحرّكت، تجلب على نفسها المتاعب والأزمات، وتُسدي لخصومها المخارج والخدمات، تزيد من أعدائها وتقلل من أصدقائها، وتغيب الحكمة عن أفعالها، حتى أنها باتت عبئا على حلفائها، على مبدأ "صديق أحمق شرٌ من عدو عاقل".
سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها السعودية في الأعوام القليلة الماضية كثيرة وكبيرة، ولا يمكن التقليل من شأنها بحال، لكن خطأ جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي ربما كان الأكثر بشاعة وإثارة للغضب والاشمئزاز من ناحية إنسانية وأخلاقية. أما من ناحية سياسية، فقد كان الخطأ الأكثر حماقةً ليس فقط لصعوبة تبيّن منفعة واضحة للسعودية فيه، إذا ابتعدنا عن التحليل النفسي لمتخذ قرار الاغتيال وغاياته المريضة، بل لأنه جلب على السعودية أضرارًا عظيمة، سواء على صعيد الصورة التي لم تكن مشرقةً كثيرا على أية حال، أو على صعيد مصالحها الاستراتيجية وعلاقاتها السياسية والاقتصادية الدولية.
لم تضع السعودية نفسها في ورطةٍ غير مسبوقة فحسب، بل أسدت، فوق ذلك، لخصومها خدمةً جليلةً، وغير متوقعة، تُضاف إلى سلسلة الخدمات الكبرى التي أتحفتهم بها على مدى السنوات القليلة الماضية، من حرب اليمن إلى حصار قطر. بحق أو بغير حق، تعتبر السعودية تركيا وإيران خصومها الإقليميين الرئيسيين، تركيا لأنها تمثل منافسا كبيرا على زعامة العالم الإسلامي بنموذجها التنموي والسياسي، والذي ما زال، على الرغم من عثراته، يمثل حالة التوافق الأكثر نجاحا في العالم الإسلامي بين الإسلام والحداثة والإسلام والديموقراطية. أما إيران، فتمثل خصماً جيو - سياسيا شرسا بطموحاتها الإمبراطورية، ومشاريعها السياسية ذات الصبغة الطائفية.
خدمت جريمة اغتيال خاشقجي خصمي السعودية بطريقة استثنائية، فإيران التي كانت تنتظر اشتداد الخناق عليها، مع دخول الحزمة الثانية من العقوبات التي تستهدف صادراتها النفطية ونظامها المصرفي، وجدت بدلا من ذلك السعودية تواجه العزل والإقصاء واحتمال وقوع عقوبات عليها، بما في ذلك عقوبات أميركية. إيران التي التزمت الصمت تجاه جريمة اغتيال خاشقجي، لتورّطها هي نفسها في محاولة استهداف تجمعٍ معارضٍ في باريس قبل بضعة شهور، تراقب اليوم بغبطةٍ كيف انقلبت الأمور لصالحها، بفضل سياسة التدمير الذاتي التي تتبعها السعودية، من دون أن يكلفها ذلك نواة تمرة.
أما تركيا، خصم السعودية الآخر، فقد أبدعت في استغلال الخطأ السعودي القاتل، فقبل أسابيع قليلة، كانت تركيا تواجه واحدةً من أكثر أزماتها السياسية والاقتصادية صعوبةً، مع ارتفاع منسوب التوتر مع واشنطن. لقد مكّنت جريمة اغتيال خاشقجي أنقرة من إصلاح علاقتها مع إدارة ترامب من جهة، ومن استعادة دورها القيادي في الإقليم من جهة ثانية. والأهم أن الحادثة أتاحت لها الفرصة لمحاسبة السعودية على محاولات استهدافها سياسيا واقتصاديا وأمنيًا، فالأتراك يشتبهون بدعم سعودي للمحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، وفي دورٍ سعودي في الحرب الاقتصادية التي تعرّضوا لها هذا الصيف، وفي محاولات تفتيت بلادهم من خلال دعم السعودية مشاريع الأكراد الاستقلالية في سورية والعراق، والتي تمثلت في تأييد استفتاء كردستان العراق العام الفائت، وتقديم دعم مالي وسياسي لقوات سورية الديموقراطية (التي يغلب عليها العنصر الكردي) في مناطق الجزيرة السورية.
وبمقدار ما عزّزت السعودية مواقع خصومها، أوقعت حلفاءها في مأزقٍ حقيقي، وهم لا يعرفون الآن كيف يخرجون منه، حتى الرئيس الأميركي ترامب الذي وصفه مرة مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي، هربرت مكماستر، بأنه أحمق بات يدرك معنى أن يكون للمرء صديق أحمق.