أسرى السكرين شوت!

أسرى السكرين شوت!

02 اغسطس 2020
+ الخط -

من أجمل وأخطر ما تمنحه لك "السوشيال ميديا" ذلك الإحساس الرائع بقدرتك على التحكم في العالم. حتى لو كنت تعلم أنّ ذلك الإحساس زائف، وأنّ ذلك التحكم لحظي وعابر، فأنت لا يمكن أن تستغني عن متعة أن تشعر أنك أمطت أذى فلان عن وجودك بمجرد "بلوك" أو "أنفريند"، أو ارتحت منه بعض الشيء بـ "ميوت" أو "سنوز"، أو عبرت عن رأيك فيه وجهاً لوجه بـ "منشن" أو "تاغ"، مع أنك تعلم ـ لو كنت عاقلاً ـ أنك لم تقم بإخفاء من تكرهه فعلاً من وجودك، وأن من تهدف لمواجهته بكراهيتك، ربما لم يقرأ رأيك أو لم يهتم به أكثر من لحظات، أو بالعكس ربما تسبب في تعزيز ثقته بأنه على صواب، لأنه لو لم يكن مثمراً لما تم قذفه بلعنات "المنشنات".

"السكرين شوتات" أو الصور الملتقطة للشاشات، واحدة من أبرز أدوات السوشيال ميديا لتعزيز الإحساس بالقدرة على التحكم في العالم، وبها تستطيع أن تقوم بتثبيت شخص ما في لحظة معينة، لتثبت أن إحساسك الكاره له كان صحيحاً، حتى لو فارق هو تلك اللحظة، ليظل بالنسبة لك أسيراً أبدياً في ذلك "السكرين شوت"، وهو ما قد يكون فعالاً ومجدياً إذا كان ذلك "السكرين شوت" يوثق موقفاً منحطاً أو جريمة كراهية أو تحريضاً على العنف أو خوضاً في الأعراض أو افتراءً على أحد، بغض النظر عما إذا كان هدفك من ذلك السعي لمحاسبة المخطئ ودفعه إلى تحمل المسئولية أم مجرد التجريس، وهو هدف مهم ومشروع، إذا لم يقع صاحبه في المحظورات التي يتصور أنه يرفضها.

تبقى المشكلة أنّ البعض يتحول إلى أسرى لـ "سكرين شوتاتهم" عن الآخرين، حين يتعلق الأمر بآراء وتعليقات يرفضونها لكنهم يتصورونها أبدية، ويعتبرون أنها كافية لتلخيص واختزال من يكرهونهم، ولذلك أصبح من الشائع حين تأتي سيرة زيد أو عبيد من الناس، أن تجد من يدخل معلقاً بـ "سكرين شوت" أو "لينك" به آراء منحطة أو غبية أو غريبة أو غير موفقة لذلك الزيد أو العبيد، وفي العادة يكتفي من يفعل ذلك بوضع الـ "سكرين شوت" أو "اللينك" متقمصاً شخصية المحامين في أفلام المحاكم الأميركاني حين ترتسم على وجه الواحد منهم ابتسامة الظفر الفشيخة التي لا يقول بعدها سوى "I rest my case"، ليقطع المخرج عليه في المشهد التالي وهو يستمع إلى حكم القاضي لصالحه أو تهنئة الحاضرين له بالمكسب.

إذا اخترت أن تصور للآخرين أنّ تلك المواقف التي تكرهها هي المواقف الوحيدة لأصحابها، أو أنها لم تتطور أو تتغير فأعتقد أنك لن تجني الكثير من وقوعك أسيراً لمنطق "السكرين شوت" في التعامل مع الآخرين وستجد نفسك يوماً ما ضحية لذلك المنطق

في العادة حين يبعث لي أحد ما "سكرين شوت" به رأي قديم لي به تناقض أو خطل أو هطل، متصوراً أنه سيذلني به ويضعني في مواجهة نفسي بشكل سيجيبني الأرض، أقول له ـ إذا كنت رايق البال أو إذا كان يهمني أمره ـ إن لي آراء أعبط وأتفه من الرأي الذي قام بتثبيته في "سكرين شوت" ثم حاول "تثبيتي" به، فأنا كأي كاتب رأي يقتضي عمله التعليق على الأحداث بانتظام، لدي تشكيلة لا بأس بها من الآراء الحكيمة التي يمكن أن تراها ثاقبة النظر، وهو نوع مطلوب ومحبوب من أيام نوستراداموس وزرقاء اليمامة، وبالطبع لا يمكن أن أضمن لك صحة رأيي أو خلوه التام من العبط، لكن أستطيع أن أضمن لك أنه رأيي ولم يمله علي أحد من هاتف "سامسونغ" أو غيره.

ربما كانت مسألة "السكرين شوت" فعالة كضربة قاضية مع عراف أو منجم، لن يكون له مستقبل إذا ثبت أن تنبؤاته فشنك، ولو أننا نكتشف كل عام أن تخاريف المنجمين أو "خبراء الفلك" لم تقطع عيشهم أبداً، أما كاتب الرأي الذي يعلق على الأحداث طبقاً لما يراه وقت حدوثها، ووفقاً لما لديه من معلومات وتصورات، فمن الطبيعي أن تصيب آراؤه وتخيب، خصوصاً إذا كان قد اتخذ قراراً بالاشتباك مع الواقع، ليقبل منه أشياء ويرفض منه أشياء، لأنّ من الأسهل والأضمن أن تختار دور الرافض الأبدي لكل ما يحدث حولك، وكل ما يلوح في الأفق من خيارات، لكي تبدو أنك بعيد النظر حين تفشل هذه الخيارات، وسيساعدك ذلك على الشعور بالرضا عن النفس، لكنه في اعتقادي ليس اختياراً أميناً ولا نزيهاً، والأهم أنه ليس واقعياً لمن يرغب في محاولة تغيير الواقع فيختار الاشتباك معه.

لذلك، حين يرسل لي "السكرين شوت" متابع أو قارئ عادي، أتفهم ذلك لأنه يستفيد من أهم المزايا التي تمنحها له السوشيال ميديا، فيشعر أنه متفوق على من يرى أنه يحتل موقعاً لا يستحقه، وهذا حقه الكامل، وسأستغربه لو قام بالتفريط في ذلك الحق، لكن حين يقوم بذلك كاتب أو ممارس للعمل السياسي، لأنه ينسى أن "وما منكم إلا واردها"، فحين تقرر أن تعبّر عن رأيك وتعمل في الصحافة والإعلام والسياسة، بالتأكيد سيكون لك آراء يكرهها البعض، وأحياناً سيكون لك آراء سيكرهها الجميع، وبالتالي إذا كنت تقوم بتذكير غيرك من الكتاب والسياسيين والمشتغلين بالعمل العام بمواقفهم القديمة من باب النقد المشروع، سيكون عليك أن تتحلى بشيء من الأمانة، فتضع تلك المواقف في سياقها، وترصد مدى تطورها من عدمه، لتساعد نفسك وغيرك على الحكم على تلك المواقف بشكل أمين، وربما ساعدت أصحاب تلك المواقف التي تكرهها على تطوير نفسهم بدلاً من أن يقفوا من آرائهم القديمة موقفاً دفاعياً.

أما إذا اخترت أن تصور للآخرين أنّ تلك المواقف التي تكرهها هي المواقف الوحيدة لأصحابها، أو أنها لم تتطور أو تتغير، ولم تكن مرتبطة بسياقات وظروف، وربما لم تكن مرتبطة بمصالح، بل وربما أضرت بمصالحهم أحياناً، فأعتقد أنك لن تجني الكثير من وقوعك أسيراً لمنطق "السكرين شوت" في التعامل مع الآخرين، وستجد نفسك يوماً ما ضحية لذلك المنطق، وإذا كنت تفعل ذلك لكي تفشّ غلّك تجاه زيد أو عبيد من الناس، وتتصور أن ذلك سيحقق لك نصراً عليهم، فالمؤكد أنه لن يكون نصراً دائماً كما تتخيل، لأن اختفاء الذين تكرههم من الوجود، ليس مرهوناً برغباتك فقط، وإذا لم تصدق خذ لفة سريعة في الوجوه التي تملأ الشاشات والصفحات والمواقع من حولك، لكن في الوقت نفسه لا تدع ذلك يمنعك من المحاولة، فربما تنجح فيما فشلت فيه الإنسانية من قبلك، مع خالص تمنياتي بالتوفيق.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.