أبو العينين شعيشع: شاهدٌ أسمَع كلّ شيء

أبو العينين شعيشع: شاهدٌ أسمَع كلّ شيء

08 مايو 2020
حاول أن يتصدى للتدهور الذي أصاب التلاوة في مصر(أرشيف)
+ الخط -
بحساب الزمن، يعد الشيخ أبو العينين شعيشع صاحب أطول رحلة قرآنية عرفتها دولة التلاوة المصرية. لكن لطول رحلته تلك، فقد مر صوته بعدة مراحل، وكانت الحقبة الذهبية له خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات، حيث كانت تزدحم المساجد والسرادقات بالجماهير الغفيرة من محبيه. وفي أوائل الستينيات، أصيب بمرض في حنجرته، أفقده قدراً مهماً من عظمة صوته، لتبدأ مرحلته الثانية، حيث واصل تلاوته للقرآن، مراعياً ما طرأ على صوته من وهن يمنعه من الأداء على السمت الأول، لكن اللمعة بقيت في صوته، فتواصلت رحلاته للخارج.
ومع تقدم السن، وبعد أن جاوز الشيخ سبعين عاماً، جاءت المرحلة الثالثة لصوته، مرحلة الوهن والضعف، التي استمرت قرابة عقدين من الزمان، واصل خلالهما الشيخ تلاوة القرآن، مع حرص على اختيار السور ذات الآيات القصيرة، فلم يكن بمقدور القارئ الكبير أن يعتزل، لأن الدعوات تأتيه من كل مكان، وأوساط المستمعين تنظر إليه باعتباره البقية الباقية من جيل الرواد العمالقة، ولا سيما بعد أن خلت الساحة من الأصوات القديرة والمواهب الفذة، فلم يكن من السهل التفريط في صوت زامَل محمد رفعت، والشعشاعي، وكان علما خفاقاً منذ الثلاثينيات.

في مدرسته الابتدائية، شغف الطفل أبو العينين بفن التلاوة، وملك عليه عقله وقلبه، وأجمع مدرسوه على أنه لن يفلح في مساره التعليمي، وأن مستقبله سيزدهر مع احتراف القراءة. كانت انطلاقته الكبرى حينما قرأ القرآن في محفل كبير بمدينة المنصورة، عام 1936، ولم يتجاوز عمره 14 عاماً. أنهى تلاوته، وخرج محمولا على أعناق الجماهير.

بعد ثلاث سنوات فقط من واقعة المنصورة، اعتمد شعيشع قارئا في الإذاعة، ليصبح أحد أهم نجوم التلاوة، من أصحاب الأصوات العبقرية، حيث لم يكن هناك مكان إلا للعباقرة، في ظل قوانين للفرز لا تعرف المحاباة ولا الواسطة، أصبح رغم صغر سنه، من الكوكبة الأولى للقراء. تضاعف أجره بالإذاعة مرات، كما تضاعف مع زيادة الطلب عليه للقراءة في المحافل والسرادقات. وفي عام 1948، بلغ أجر الشيخ 100 جنيه في الليلة، بعد أن أحيا شهر رمضان بالقصر الملكي. امتلك أبو العينين شعيشع قدرة كبيرة جدا على تقليد الشيخ محمد رفعت. صحيح أن الصوتين يختلفان كثيرا، لكن هذا الاختلاف كان يتضاءل وربما يتلاشى إذا تعمد شعيشع تقليد الشيخ رفعت، إلى درجة أن الإذاعة استعانت به لإكمال بعض الكلمات في تسجيلات رفعت التي تعرضت للتلف، وقد أدى شعيشع المقاطع المرادة بدقة كبيرة، لا يمكن خلالها تمييز الفارق بين صوته وصوت رفعت إلا للمتخصصين وكبار المهتمين بأصوات القراء، كان ذلك عام 1952، وقد بلغ الشيخ ثلاثين عاماً، وصوته في القمة من الجمال والقوة.

تلقى شعيشع طلبا من إذاعة الشرق الأدنى بالقدس لتلاوة القرآن عبر أثيرها، فكانت هذه أولى رحلاته إلى الخارج. لم يكن عمره يتجاوز حينها 18 عاما. وفي منتصف الخمسينيات، تلقى الشيخ دعوة رسمية لزيارة العراق لإحياء مأتم ملكي، وسافر إلى بغداد بصحبة القارئ الكبير عبد الفتاح الشعشاعي، وتلقى أجراً مقداره 3 آلاف جنيه نظير تلاواته الساحرة المبهرة، ومن وقتها لم تتوقف زيارات شعيشع للخارج، فكان أول قارئ مصري يتلو القرآن في المسجد الأقصى، وقرأ كذلك في المسجد الحرام، والمسجد الأموي بسورية، والمركز الإسلامي بلندن، وزار كل الدول العربية والإسلامية.



مع الخبرة والنضج، اتضحت معالم تلاوة شعيشع، وتأكد تحرره من أثر محمد رفعت، واتسمت طريقته بأنها نمط صعب فريد، يستعصي على المحاكاة والتقليد، فهي "تلاوة جوفية"، تعصر الحروف عصراً، ولها رنين وبريق ولمعان، فصوت شعيشع من الأصوات "المعدنية"، وهو فنان في انتقالاته النغمية، وأداؤه أخاذ قوي، ولا سيما في منطقة الجوابات. وقد ترك شعيشع ثروة كبيرة من التسجيلات الخالدة، التي تعد ضمن أنفس ما تضمه المكتبة القرآنية، ومن أهم تسجبلاته المعروفة والمشتهرة بين المستمعين، تلاوته من سورة آل عمران، من أول قوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، حيث بلغ الشيخ ذروة الأداء الفخم العظيم المستحيل، وكذلك لا ينسى المستمعون تلاوته لسورة القصص، من قوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"، وهي من التسجيلات العظيمة في تاريخ دولة التلاوة.

في عام 1969، عُين شعيشع قارئا لمسجد عمر مكرم، وبذل جهدا كبيرا مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لإنشاء نقابة القراء، التي أصبح على رأسها عقب رحيل عبد الصمد عام 1988، وفي عام 1992 عين قارئا لمسجد السيدة زينب رضي الله عنها، كما عين الشيخ عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضوا بلجنة اختبار القراء بالإذاعة والتلفزيون، واختير عميدا للمعهد الدولي لتحفيظ القرآن الكريم، وعضوا باللجنة العليا للقرآن بوزارة الأوقاف، وعضوا بلجنة عمارة القاهرة.

بحكم مناصبه المتعددة، وبحكم خبرته الطويلة المتراكمة، حاول شعيشع قدر طاقته أن يتصدى للتدهور والتراجع الذي أصاب فن التلاوة في مصر. لم يكف عن الشكوى من ضعف لجان اختبار القراء، وتجاهلهم للحد الأدنى من معايير القبول الإذاعي، وإصرارهم على تمرير عدد من أصحاب الأصوات الرديئة والأداء المبتذل. كان الرجل شاهداً على عدة عصور مر بها فن التلاوة في مصر: عصر ذهبي مزدحم بالأصوات العبقرية، وعصر توقف فيه مدد الأصوات النفيسة النادرة، ونزلت فيه معايير الجودة عدة درجات، من دون أن تصل إلى درك الرداءة والابتذال. ثم عصر الانهيار الشامل، الذي بدأ أوائل السبعينيات، وبلغ مداه في عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

ولد شعيشع عام 1922، بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ، وحفظ القرآن مبكرا قبل أن يتم العاشرة، ونال استحسان أساتذته وزملائه في المدرسة، وامتدت رحلته مع القرآن سبعة عقود إلى أن رحل عن دنيانا في 23 يونيو/حزيران 2011، بعد حياة حافلة، عاصر خلالها حكاما وملوكا ورؤساء في مصر وخارجها، وقرأ آيات القرآن الكريم باقتدار وتفرد على مدار 75 عاما، زامل فيها أساطين القراء، أمثال محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومصطفى إسماعيل، وكامل يوسف البهتيمي، ليختم حياته شيخا للقراء بالديار المصرية، ونقيبا للقراء المصريين. نال شعيشع أوسمة رفيعة من معظم الدول العربية والإسلامية، ومن أهمها وسام الأرز من لبنان، ووسام الاستحقاق من سورية، ووسام الرافدين من العراق، كما كرمته الإمارات والصومال وتركيا وباكستان وإيران.

المساهمون