"داعش" وبناء الجدران العالية مع العالم

"داعش" وبناء الجدران العالية مع العالم

30 مارس 2016
+ الخط -
شكلت ولادة تنظيم داعش وإعلانه "الخلافة الإسلامية" في المناطق التي سيطر عليها في سورية والعراق، ذروة المسار الإرهابي الذي يهدف إلى بناء الجدران العالية مع العالم. صحيح أن أغلبية الدول العربية والإسلامية لم تكن متصالحةً تماماً مع عالم اليوم، لكنها كانت أكثر اقتراباً مما هو عليه الحال اليوم، في ظل مزيد من الجدران العالية التي يبنيها "داعش" بالصورة التي يبثها عن الإسلام، أو بالأصح عن نوع معين من الإسلام، ويسعى إلى تعميمها بوصفها الصورة المطابقة لـ"الإسلام الأول"، و"الإسلام الصحيح".
يمكن القول إن "داعش" كان نتيجة اللقاء بين عنفين، محلي ومستورد، بين العنفين العام والخاص، بين أردأ ما في التراث وآخر صرعات الاستعراض العنفي الحداثي. "داعش" هو اجتماع الرداءة بين عالمين وبين زمنين. زمن يعتقد أنصار "داعش" ومؤيدوه أننا ننتمي إليه، زمن مضى صحيح، لكنه شكل الذروة الانتصارية الإسلامية، بوصفها اللحظة التي جعلتنا نُخضع العالم بحد السيف، لا أن نخضع له. وحتى نُخضع العالم من جديد، علينا أن نعود إلى العنف، بوصفه سيف العالم الحديث. واللحظة نفسها هي اللحظة الانتقامية من عالم غربيٍّ أخضعنا وأذلنا، في حروبه المستمرة علينا، الحروب التي خاضها تحت راية الصليب، والانتقام، ليس له مفعول حديث فحسب، بل هو انتقام من الغرب بأثر رجعي أيضاً، وعلى كل ما فعله بنا.
الصراع حسب هذا منطق الحقيقة المطلقة، هو الأقصى والأقسى، صراع الجواهر التي لا تتصالح، الصراع الإلغائي بالوسائل الأكثر عنفاً، إما تَخضع أو تُقتل، فلا حوار مع الآخر المختلف سوى بلغة الدم.
يستدعي صراع الجواهر سياسة إلغائية بالضرورة. وبذلك، لا يتم الانطلاق من السياسة، بوصفها تعبيرا عن مصالح، وهنا يتم استدعاء الأيديولوجيا بوصفها المُخفي والساتر هذه
المصالح، بتصوير الصراع بوصفه صراعاً وجودياً، لا صراع مصالح. وإذا حركت المصالح الآخرين، فنحن تحرّكنا "حماية الدين"، حتى الغرب نفسه عندما يهاجمنا، لا يخوض حربه ضدنا من أجل مصالح له في الدول الإسلامية، بل من أجل كسر شوكة "الإسلام"، فالإسلام هو المستهدف لا المسلمون، الإسلام بوصفه جوهراً ثابتاً لا يتغير على مر العصور، جوهر لا يدركه سوى هؤلاء "القتلة الجوالين". وحتى نستحق أن نكون مسلمين، يجب أن يكون الإسلام جوهرياً وتطهرياً. لذلك، يجب الذهاب إلى الحد الأقصى في الصراع مع أعداء الإسلام، وهو صراع مع جميع الأعداء، دفعة واحدة، الأعداء الداخليين، والأعداء الخارجيين، ليس هناك رحمة، فالصراع يحتاج إلى "إدارة التوحش" وهو عنوان واحدةٍ من وثائق "داعش".
ليس لبناء الجدران العالية مع العالم وظيفة أيديولوجية دينية فحسب، بل وظيفة سياسية أيضاً. لإنجاز المهمة، يجب ممارسة السياسة بأقصى تطرفها ودمويتها، على اعتبار أن من يمارس هذه السياسة "الفرقة الناجية"، وهي الوحيدة القادرة على إنقاذ الإسلام من المسلمين المرتدين الكفرة، وحمايته في مواجهة حرب الإلغاء التي يشنها الغرب الصليبي على الإسلام.
أقصى السياسة يعني اعتماد "سياسة الإرعاب" المدعوم بـ "فقه إرعابي" يُفتي بقطع رؤوس الصحافيين وعمال الإغاثة الأجانب على أسناد دينية واهية، ويتم تصوير هذه الجرائم البشعة بطريقة هوليودية، والاحتفال بها وبثها بطريقةٍ صاخبة، حتى تكون الرسالة في غاية الوضوح، لبث كراهيتنا العالم، واستنفار كراهية الغرب ضدنا، كراهية عميقة، تسعى إلى استدعاء كل غرائز الكراهية في المجتمعات الغربية، لتعزيز "فوبيا" الإسلام، وتوسع هذه "الفوبيا" يعزّز الاستقطاب، ويعزّز الجدران العالية مع "الغرب الصليبي". وحتى لا يكون هناك أوهام، يجب ممارسة أقصى السياسة العنفية، حتى مع العرب الشركاء مع التحالف في الحرب على "داعش". لذلك، كان الإحراق الهوليودي للطيار الأردني، معاذ الكساسبة الذي وقع بأيدي "داعش". بحيث يبدو لا مساومة في الصراع في عالم مقسومٍ إلى فسطاطين، فسطاط الحق، وهو عالم "داعش"، وفسطاط الباطل، وهو عالم الآخرين، فليس هناك أجوبة احتمالية في عالم المطلق، كل الإجابات قطعية ومدعومة بالدم.
طبعا، ليس كل القتل الداعشي قتلاً من النوع الهوليودي، فحتى في عالم الضحايا هناك تمييز وتفريق، هناك ضحايا عالية القيمة، وهناك ضحايا لا قيمة لها، وقد مارس داعش هذا التمييز العنصري، حتى بالنسبة إلى ضحاياه. فهناك ضحايا يساهم إعدامها بطريقة استعراضيةٍ بحمل رسالة تعزيز جدران الكراهية العالية مع العالم، ومع الغرب تحديداً. وهناك ضحايا لا قيمة لها، حتى العالم نفسه يسكت على قتلها، مع أنه أقر شرعة حقوق الإنسان، منذ أكثر من ستة عقود. الضحايا المنتمون إلى المناطق الخاضعة لسيطرة "داعش"، والذين يشكلون رعية "الدولة الإسلامية" لا قيمة لهم، فلا أحد يلتفت إلى مصيرهم. لذلك، تكون إعدامات الرعية في المناطق التي يسيطر عليها "داعش" بلا تكلفة وبلا ضجيج، فالضحية لا تستحق حتى الرصاصة التي تقتل بها، فهي لا تشغل بال أحد، ولا تحمل رسالة لأحد.
يسعى "داعش" وأمثاله من الحركات الإرهابية إلى إنجاز قطيعة نهائية مع العالم، كل العالم، المسؤول عن خرابنا، العالم العدو الذي لا تصالح معه. وإذا كان العنف يولد "من تصغير البشر"، حسب تعبير الهندي أمارتا صن، فإن تصغير البشر واحتقارهم وقتلهم بأبشع الوسائل هو الوصول إلى نهايات الطريق العنفي. على ذلك، يسير الإرهاب الداعشي وأشقاؤه بهذا الطريق إلى نهايتها العنفية الأقصى، التوغل في دم الجميع، من أجل إنجاز القطيعة النهائية مع العالم الكافر، ما يعني القطيعة مع كل العالم.
لا شك في أننا نعاني من مشكلاتٍ كثيرة في العلاقة مع العالم، بفعل تعقيداتٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ واقتصادية، وبفعل تطورٍ لا متكافئ تعيشه بلدان العالم. والغرب مسؤول عن مشكلاتٍ عديدة نعانيها، لكنه ليس مسؤولاً عن كل مشكلاتنا. فخلط القضايا، لا يؤدي إلى عدم حلها فحسب، بل هو يؤدي بها إلى مزيد من التعقيد أيضاً، ويجعلها غير قابلةٍ للحل، إلا بالطرق التدميرية. قرّرت مجتمعاتنا ونخبنا أن تؤجل مواجهة قضاياها الرئيسية، فسكتت عنها، وهذا ما جعلها تتعفن، ومن هذا التعفن ولد "داعش"، وتصوره عن العالم والصراع، ليجيب عن أسئلة الواقع القائم بالذبح، بوصفه طريق الخلاص، والقطيعة مع العالم والانعزال في صحراء لا يدخلها هواء غريب. إنها الوصفة النموذجية للدمار الذاتي النهائي، ولبناء قلاع خربة في مواجهة العالم، إنه الإنجاز الأكبر لـ"داعش" ولـ "دولة الخلافة".
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.