"النهضة" محاصرة

"النهضة" محاصرة

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
تحدث زعيم حركة النهضة في تونس، راشد الغنوشي، بثقة عالية أمام أعضاء الكتلة البرلمانية للحركة، حيث ذكّرهم بالأيام الخوالي، عندما كانوا مشرّدين وملاحقين، حتى يدركوا ضخامة التحول الذي حصل لهم، ونقلهم من التشرّد إلى حزبٍ حاكم. كما أكد أن "النهضة" بمثابة العمود الفقري للبلاد، ولا يمكن الاستغناء عنها، وحتى لا توصف الحكومة بأنها حكومة النهضة، فقد تنازلت الحركة من دون التخلي عن شروطها.
هذه الثقة العالية التي أثارت حفيظة خصوم الحركة، وأحرجت رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وأغضبت الوزراء السابقين الذين اتهمهم الغنوشي بأنهم فاسدون، قبل أن يقدّم لهم الاعتذار، هذه الثقة ليست كافيةً لتحجب التحديات الكبرى التي تواجه "النهضة" حاليا، فقد تكون الأشهر المقبلة الأصعب بالنسبة لها، إذا ما عجزت عن التعامل مع أربعة ملفات ستحاصرها مستقبلا من الجهات الأربع.
لعل أهم هذه الملفات قصة الجهاز السري الذي يتواصل البحث عنه بنسقٍ سريع، وتحاول الجبهة الشعبية أن تجعل منه حبلا تعمل على وضعه في رقبة الشيخ الغنوشي ومن معه، وهو ملفٌ لا يمكن الاستخفاف به، أو التقليل منه، خصوصا وأن الأسلوب الذي اختارته الحركة للدفاع عن نفسها لم يقنع كثيرين، وزاد في تغذية الشكوك لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من النخب ومن المواطنين.
اتخذت الأحداث منعرجا جديدا، عندما أقرّت وزارة الداخلية بوجود غرفةٍ مغلقةٍ في مقرها المركزي، وصفها بعضهم بأنها "سوداء"، تحتوي على كم هائل من الوثائق والتقارير يخص بعضها الأمن القومي، والتي حجزت عند لسعد خذر، الذي تفترض هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي أنه المسؤول عن الجهاز الخاص، والمرتبط تنظيميا بحركة النهضة.
ويخص الملف الثاني العلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي عادت لتتأزم، فقيادة الاتحاد تعتقد أن المواقع الإلكترونية لحركة النهضة انخرطت بكل قوة في الحملة التي شاركت فيها أطراف متعدّدة قريبة من يوسف الشاهد ضد لجوء النقابيين إلى الإضراب أسلوبا للضغط على الحكومة. وعلى الرغم من اللقاءات المتكرّرة بين الغنوشي وأمين عام الاتحاد، نور الدين الطبوبي، إلا أن الخلافات بشأن ملفات عديدة بقيت مهمةً وعميقةً، وفي مقدمتها الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، فيضاف الموقف من الشاهد الذي دعا الاتحاد إلى سحب الثقة منه، واتهامه بالفشل، ساندته "النهضة"، وثبتته في موقعه رئيسا للحكومة، على الرغم من اعتراض رئيس الجمهورية وحزب نداء تونس. وهكذا تعارضت الرؤى، واصطدمت المواقف بين الطرفين.
يخص الملف الثالث الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تبنّتها الحركة، وتقاطعت في كثير منها مع توصيات صندوق النقد الدولي. لقد عبّرت "النهضة" عن دعمها الإصلاحات التي دعت إليها مؤسسات التمويل العالمية، ما أكد انخراط الحركة في الاختيارات الليبرالية التي لم تنجح حتى الآن في تحقيق مطالب التونسيين المتعلقة بمحاربة البطالة، والحد من غلاء الأسعار، وحماية القدرة الشرائية للتونسيين. ولا شك في أن التورط في هذا الاتجاه قد عمّق الفجوة بين الحكومة والشعب، وقلص من القاعدة الشعبية للإسلاميين.
الملف الأخير والمرتبط بالانتخابات المقبلة يتعلق بالمستقبل التنظيمي والسياسي للغنوشي، والذي يواجه منذ المؤتمر العاشر للحركة معارضة شديدة من عدد مهم من الكوادر التي تطالبه باحترام تعهداته الخاصة بتخليه عن رئاسة الحركة. وقد تعهد بذلك، إلا أن هناك من يدفع نحو بقائه على رأس "النهضة"، بحجة أن المصلحة العليا للحركة تفرض ذلك. وإذا ما استمر في قيادة الحركة، سيعتقد المطالبون بالتداول الديمقرطي على المسؤوليات أن الحركة لا تزال محكومة بالتقاليد الأبوية التي رسّخها الموروث الإخواني في صفوف الإسلاميين.
هكذا يتجلى أنه على الرغم من بعض الانتصارات التي حققتها الحركة، إلا أن طريقها لا يزال محفوفا بالمطبات والتحدّيات، فهي تواجه، من جهة، عددا متزايدا من المناهضين لها يوما بعد يوم. وفي المقابل، تجد نفسها مدعوةً إلى القيام بمراجعاتٍ داخليةٍ عميقة تستجيب للتطورات التي تمر بها.
هذا واحدٌ من وجوه المعاناة السياسية التي تعيشها الحركة الإسلامية التونسية القوية في ظل تفكك بقية الأحزاب، وفشل منظومة الحكم القائمة، حيث تسود الضبابية، ويغيب الوضوح الاستراتيجي.