العرب الضائعون

العرب الضائعون

27 ديسمبر 2019
منى باسيلي صحناوي/ لبنان
+ الخط -

شائعات

أُمّي تَجلس في بيتٍ حجريٍّ وتَحترق.
أبوها أحضَرَ عائلته إلى هنا هَرَباً من التاريخ.
في صِغَرها - إحدى تسعة - كان يَضرِبُهُم
بيديْ أبٍ. ولاحقاً، بينما هو في نَشوة الهروين،
يُصبح مَندوب مَبيعاتِ مُنتصف الليل، يَبيع جَواهرهم
ومَراتب أسرّتهم. ليس عندي سبيلٌ للتحقّق من ذلك.
فجدّي وجدّتي عادا إلى ديارهما في الطين.
الشائعة يمكن أن تكون كَذْبة، أو حقيقةً تافهة،
إنها ثَقْبٌ تَسمح له اللغةُ بامتلاك روحين.

أُمّي تجلس في بيت حجري وتحترق.
أحياناً تكون هي الحَجَر، أحياناً النيرانَ.
لا تَصرُخُ. إنها إشارة ضوئية أُسجلّها
لأستعمل ضوءها كهِراوة تَترك على هذه الصفحة
أثرها البَنفسجيّ. "أردتُ أن أكون فنّانة ولم يَدعني".
كان زوجها الأوّل يَضربها. يكون في نَشوة الهروين.
ضربها في البيت. شَجّ رأسها بمسُدّس.
والآن تنسى اسمَها مرةً في اليوم على الأقل.
زارها في المستشفى وهي راقدةٌ تتعافى.
وضربها وهي على السرير هناك. أنا أدوّن كل شيء.

أُمّي تجلس في بيت حجري وتحترق.
البيت إما ضَيْعة أو فيلا في لبنان. إنه في
"فيلاوود"*. وهناك صور لأُمّي قبل ذلك كلّه -
الجميع متّفقون إنها كانت جميلة.
أراها تَحترق، وجهَهَا وأنفَهَا وشفتيها تنثني
إلى فَوْقُ وقد صارتْ وَرَقاً أسودَ وهي تَجلو الصحون
وتذهب إلى العَمَل وتَطلب عشاءً "تيكاواي".
لا شيءَ أجملَ من البقاء لكنْ لا أحد عندي أخبره،
الجميع متفقون على أنّ الحاضر
ليس سوى قُبحٍ نتجاهله.

أُمّي ليستْ وَحدَها في فُستانِ زفافها المُتَأجِّج
الذي هو حَجَر بقائها. تَصعد بناتٌ أخريات إلى جوارها،
كلٌ منهنّ جَهَنّم صَغيرة. يتحدّثن بالجَمر والرَماد
وألسنتهن مِكواة تَرسُم اللغة على الجسد بالحريق.
يقلن لي إنّ للعائلة نقاطَ تفتيش شرسة كالتي لأي
بلد، لا يستطيع الجميع المرور منها وإنْ فعلوا
يفقدون أسماءهم وسْط أَحْرُفٍ مُستعِرة. ليتني سألتُهن
كيف أُفاضِل بين قبضةٍ تَلْكُم في البيت وحدودٍ دُوَليّة،
بين الكدمة والارتباك، أو كيف أعيش في مساحة
هي في الوقت نفسه مكانٌ آمن وجُرح،
شعلةٌ وحَجَر. فلكل كلمة روحان على الأقل. أُمّي نجت
ولم تنجُ. لا تستطيع أن تُبقي أحلامَها في جوفها،
إنها تنسكب من ثقب في رأسها تركته قطعة سلاح،
تركه رجل أو حياة أو هذه القصيدة تركتْه مفتوحاً.

أُمّي تجلس في البيت الحجريّ الذي وضعتُها فيه
وتحترق. كان يُمكن أن تكون شيئاً أكبر بكثير.
كان يمكن أن أحكي لكَ عن الماسة المخبوزة في سِنِّها
وكيف جعلتْ من ابتسامتها جوهرةً تُوزَن.
يُمكنني أن أقول إنها لم تَصل أبداً من لبنان،
إن جدي ترك التاريخ يَحرُق له جسده في طرابلس
وهكذا أنْقَذَنا. إنها تَقود حافلات وتتقن صناعة "الجيلاتي"،
وإن ذهنها دائماً ما يتفتق عن ابتكاراتٍ جديدة.
إنها تربي كلاباً تصرخ من البهجة كلّما لقيتها.
في بيتي الحجري تبدو هذه الأشياء تافهة أو كاذبة
لكني أقول لكَ إنها الحقيقة.

* فيلاوود إحدى ضواحي سيدني وتشتهر بمركز حبس "المهاجرين غير الشرعيين"


■ ■ ■


كل يوم

كلَّ يومٍ أدعو دعوةً لفلسطين
وكل يوم يلتقطها كلبٌ ويَجري
مختفياً يهُزّ ذَيْله عبر الزقاق
مَن يعلم لصالح أيّ مِسكين.
أقول لنفسي: لا يهُم من يتلقّى
هديّة طيبتي. كَذبات رائعةٌ حقاً
تلك التي نتفضّلُ بها على أنفسنا.
أحياناً أكون أنا الكلبَ الهارب
بما يتحرّق له شخصٌ حقير
بين فكّين يَقطر منهما اللعاب.
وأحياناً أكون أنا المتكوّر
في آخِر الزقاق، وقد حلّت عليّ
نِعمَةُ دفءِ فمٍ لاهثٍ يقول لي
إنني لستُ منسيَّاً. كل يوم
أدعو دعوةً لفلسطين.


■ ■ ■


العرب الضائعون

(إلى عزيزي نجوان)

في مملكة العَرَب الضائعين، كلُّ صخرة
هي مُنشقٌّ جميل حتى تبصقَ عليها.
في بعض الثقافات، البصاق تَيَمُّن.
أعطني مياهَ لِسانك، أيَّ كلمة بَلِيلة
تُلطّف حَلْقاً صامتاً وأنا حلقي
ما زال مُقفَلَاً على أمي وجَدّتي
وحتى أبطأ أبناءِ عُمومتي وأقلِّهم طِيبة
القادرين على الكلام بنَبْراتِ أهلنا الغليظة
والذين، مع كل عبارةٍ تَندَلِق من أفواههم،
يُفصِحون عن أنهم في بلادنا. أسناني
تَحلُم بثلاثةِ أُممٍ ستَجعُل
عَظمَهَا يَصْفَرّ. أُبلّل أطرافَها
كراسم خرائطَ بَليد لم يَرَ في حياته تلّاً
ولا نهراً لم يَسرقْه من راسمٍ سواه
وهكذا لا يُمكن أنْ يَعرف شكلَه الحقيقيّ.
حين أتطلّعُ إلى أسْمائِنا، لا أرى سوى خَربشة.
هل تُصدّق أنّي أظلّ أحاول أنْ أَعثر على الشِعر
في جُرح؟ يا لها من حماقمة وسوء تقدير. ومع ذلك:
قال لي رجُل يَعرف تاريخَه إنّه
في دمي. أيُّ أبله وَضَعَه هناك؟
لعل هذا هو السبب في أني سكبتُ منه
كل هذا على شفرة الأصالة، مقطّعاً
أولئك الذين اعتبرتُهم زائفين، الذين أحببتُهم
وأحبّهم ولكنْ رَفَضتُ أن أصيرَهم. كلَّ يوم
ينهار يقيني. بأني ضائع. أو يُمكن أن يُعثر علي.
أن ثمة شيئاً ما يُمكن أن يُقال إنه عربيّ.
لا شيء من ذلك حقيقياً. لا يوجد خارج عقلك،
ذلك الحجر الذي فَلَقتَه بالسيف.
انزعه أنتَ إنْ استطعتَ، وإن جرؤتَ.
فها هي مملكة تنتظر الأيدي الواثِقة
لِجزّارٍ جديد. وأنا أَعترف
بأني لستُ أهلاً للمُهِمَّة.


■ ■ ■


آمين

يُفترض أن أَبدأ
بالدُعاء. شَذْرة
من لسان. بسملة
لو كنتُ أَشعر بعروبتي
تَمتدّ إلى الرحمن الرحيم.
وأحياناً لا يَعني ذلك
إلا أنني خائفٌ جداً.
بسم الله الرحمن
الرحيم أُعدّ الشاي،
أَتخفّف من احتقاني،
أَستعد للنوم. وكم أبدو
مُتديّنا بينما الحقيقةُ
أنها إحدى العباراتِ
القليلةِ التي أعرفها
كما أعرف الإنكليزية.
لكن العربيةَ هي التي
أَعود إليها وأنا
في قَبضةِ كابوسٍ
بحثاً عن عزاء.
الفضلات التي بقيت.
إنها كافيةٌ
لأستيقظ عَرقانَ.
أخاف التِكرار، أنْ
أُنفِد ما في اللغة
من قَدَاسة. أزيل
الإلهيّ عن فمي.
فبأيّ شيءٍ حينذاك
أُواجه الشيطان
في الظلام؟ بوَحدتنا
المُشتَرَكة؟ أتحداك أن
تطلب منّي أن أُحبه.
ربما - وأنا أَعرف
أنني لا يجِب
أنْ أفعل - أستَسلِمُ
لهذه الأُضحوكَة،
أغنية ليست ذاتَ صِلَة،
تعاويذَ بلا وَزنٍ.
هذا الكلام لا يحتوي
إلاي، ولا يشير إلى
أي اسم آخر
من أسماء الله الحسنى.


■ ■ ■


كيف تكونُ ابناً

كان أبي لأَطول وقتٍ عبارةً
عن ابتسامة بلاستيكيّة تحت السرير.
قبل ذلك، كان أيَّ شيء يَخرُج
من فم أمي. كان "سأُخبرك
حين تَكبَرُ". كان دُخاناً يتلوّى،
اسماً سِرّياً. شَيْنُ الأتراك ذاك.
كان بلداً بعيداً أو كلمة أجنبيّة.
سَلّمتُ نفسي ليديها اللتين كانتا
أيضاً أباً؛ صاغتاني شيئاً يَجفِل.
شيئاً يُقرفِص بِتَردُّدٍ، كدْمةً تُرتَقَب.
باباً مُقفلاً، مَوْقِعاً أسودَ لـ"السي آي إيه" -
جسدي مجهول يُنكره الجميع إلا
أحقرَ الرجال. قلتُ أرجوكِ اضربيني حتى
تحفِري أبي فيّ، لكنْ لم يُمكنْ العثورُ عليه.
وحين حدَثَ تمنّيتُ لو كان بَقي
مفقوداً. لامَ نفسَه على الرجال الذين
أريدهم. للأب أن ينفي أي احتياج يَعتَقِد
أنه مجموع الرغبات، يَعتَقِد أن
للغياب جِنساً. اسمع!
لا يُمكنكَ أن تُحبّ بأثر رجعيّ، إن هذا
يدمّر حتى التاريخ الذي لا أملك سواه
ومثل كل الرجال بالتالي أتمنى أن أهجره.
في غياب الزمن سوف أخترع
ورْداً، سُلالةً تتجاوز الجغرافيا ثم
كلَّ أنواع البشر الخلّابين
يَجوبون الصحراء وغابة الزيتون
في ممالك مُبَلّلة، مقتفين أثر قُرى حيث
يمكن للصبيّ أن يُحِبَّ صبياً ويظلّ
يُقال له ابناً.


■ ■ ■


ها نحن هنا

لا يبدو أنّ الناس تفهم.
يقولون انظُرْ، الجحيم هناك حيث الحَشيش
أكثرُ خُضرةً. أو لا، انظر، إنه حيث الدماء
تُبلّل كل شيء. لا أحد يريد أن يُواجه
حقيقة هذا المكان. فالقَصْرُ في الجحيم
يظل في الجحيم. حرّية الحركة في الجحيم تظل - اسمع، الجحيم هو أيُّ مكانٍ فيه إنسانٌ يُعَذَّب
ونحن هنا منذ الأزل.


* قصائد مختارة من مجموعته "العرب الضائعون"


** ترجمة عن الإنكليزية يوسف رخا

المساهمون