ضحِكت سيلينا

ضحِكت سيلينا

20 يوليو 2018
(مقطع من عمل لـ ضياء الحموي/ سورية)
+ الخط -

لم أكن أعرفها من قبل، ولم أكن قد رأيتها إلّا حين عرّفتني صديقتنا المشتركة عليها. كنتُ وقتها في حالةٍ مزريةٍ، لم أحلق شعري وذقني منذ أسابيع، في يدي كتابان عن الانتحار، وفي وجهي كآبةٌ لا تضاهى.

وحين وقفتُ في طريق الجامعة الرئيسي للتكلم معهما، أخبرَتني صديقتي أن الفتاة التي أحببتها قبل أن أدخل الجامعة، ودرسنا معاً نفس التخصّص، وشاركتني كل شيءٍ في حياتي منذ سنواتٍ طويلةٍ، وبسببها أحمل الآن هذين الكتابين، تجلس - بينما نتكلّم - ورائي تماماً، من دون أن تعيرني نظرة واحدة. تجلس بملابس جديدةٍ (خضراء اللون)، بطريقةٍ لا تجلس بها إلّا حين تكون سعيدةً، مع شابٍ جديدٍ كثيابها.

حينها، أخبرتُ الفتاتين أمامي - بعد أن سألتني باهتمامٍ بالغٍ صديقةُ صديقتي عن محتوى الكتابين - أشياء عن الانتحار، كيف أنّ الشخص الذي ينتحر بالنار (أو ربما غرقاً) يريد أن يتطهّر من ذنبٍ مخيف، وأنّ الذي يرمي بنفسه من علوّ شاهقٍ يبحث عن لحظات حريّة في الهواء تُشعره بالتّخلص من جسده.

قلتُ لها إنّ الانتحار إجراءٌ عقابيّ يُمارسه المنتحر ضد سبب ألمه، حين يعلم أنّ بقايا ضميره ستُوجعه إلى الأبد عليه، فيضمن بذلك انتقاماً - ولو شكليّاً- لذاته، ويضمن أيضاً خلوداً في ذاكرة من يحب. فقالت لي صديقة صديقتي بالإنجليزية، وبنبرةٍ كطرقة الشاكوش: "أنت لست مميّزاً كما تظنّ نفسك"، ثمّ أضافت بالعربيّة: "ربما أحزنَها الأمر في البداية، لكنها ستتخطّاه فيما بعد كما تخطّتك الآن".

بعدها أمسكت يدي كأنّها تواسيني وتعتذر في الوقت نفسه، ثمّ ضحكت تلك الضحكة الذي ستكون كلّ القصّة التي سأكتبها في ما بعد، كمحاولة لوصفها. عرفت على الفور - رغم أنّ صديقتي أخبرتني باسمها - أنّها ستكون سيلينا!

عندما تبتسمُ ابتسامةً عفويّةً، كالابتسام وقت يقوم طفلٌ أمامك بعملٍ لا ينتمي لمرحلته العمريّة، فإنّ جزءاً في الدّماغ يسمى "العقد القاعديّة" يأخذ على عاتقه أمر الابتسامة، بينما حين يُطلَب منك أن تبتسم، أو تطلب أنت ذلك من نفسك، فإنّ القشرة الحركيّة في مقدمّة المخّ (الأقل كفاءةً بأضعاف) هي من تقوم بذلك، فتخرج الابتسامة صفراء كملابس مليئةٍ ببقع الدهون بعد الغسيل، ومنفّرةً كابتسامة بائعٍ متجوّلٍ أمام بابك نصف المفتوح، بعد أن أغلقوا عشرات الأبواب في وجهه.

لكنّ سيلينا كانت ماهرةً بشكلٍ لا مثيل له بكلّ أنواع الابتسامات، كأنّ الابتسام موهبتها الحقيقيّة، كأنّ كلّ أجزاء دماغها عفويّ أو إجباري، تترك كلّ شيءٍ تقوم به - ولو كان تنظيم التنفّس أو ضربات القلب - وتُحرّك بمهارة أصابع على أوتارٍ من ماء كلّ عضلات وجهها، حتى تلك الموجودة في أعلى جبهتها.

عدتُ إلى الحياة بعد شهرين من الانغلاق. حلقت لحيتي التي لم تكن مليئةً بالفراشات كلحية "والت ويتمان". أكلت طعاماً دسماً بعد أن كانت وجباتي السابقة تشبه طعام المشافي، وشاهدت وثائقيّاً عن أعشاش الطيور. سهرت مع أصدقائي حتى الصّباح، فغبت عن محاضرتي الأولى نائماً بلا أحلام. استيقظت على صوت سيلينا في رأسي يقول لي: "استبدل الكتابين". وجدت نفسي أمام رفّ كتبٍ سينمائيّةٍ، فاستعرت "المصباح السحريّ" لـ بيرغمان ومذكّرات فيليني. ذهبتُ إلى محاضرتي متأخّراً، مقلّداً مشية تشارلي تشابلن، وواضعاً قلم رصاصٍ فوق أُذني، فضحكت القاعة كلُّها عليّ، حتّى دفاتر المحاضرات.

حين خرجتُ، شاهدتُ سيلينا وضحكتَها جالستَين في نفس المكان مع شخصٍ يحمل الكتابين اللذين أعدتهما. وفي اليوم التالي شاهدتها هي وضحكتها مع شخصٍ يبكي... وهكذا في باقي الأيام. لكنّني كنت أحياناً ألمحها وحيدةً مع ضحتكها، فنتشارك الطريق إلى كليّاتنا، أو نجلس قرب شجرة اللوز أمام متجر الكتب.

أخبرتني سيلينا أنّها تحبّ الروحانيّات كثيراً، تعمل في مؤسسةٍ خيريّةٍ بأجرٍ رمزيّ، وتصرف جلّه على شراء المجموعات الشعرية المكدّسة على رفوف المكتبات، والتي لا يمسح الغبار عنها أحدٌ.

- "أحبّ القصائد" قالت، "أتركها تتسرّب داخلي، كما تتشرّب الأرض ليلةً ماطرةً لأيام، ولا أستخدم ذكاء عقلي أبداً!". حدّثتني أيضاً عن رغبتها في أن تصبح راهبةً على طريقتها الخاصّة، تسافر من مدينةٍ إلى أُخرى (حازمةً ضحكاتها، فكّرتُ) لتقرأ قصائد مع الأطفال.

كان مريدو سيلينا يُعدّون لها مهرجاناتٍ احتفائيّةً في ساحات الجامعة. ذات يومٍ، وبينما كنت أمشي بلا هدفٍ في الطرقات، سمعت صوت كمانٍ قادمٍ من جهة المكتبة، وحين اتضّح الصوت أصبح مقطوعةً تحاول أن تحاكي صوت سيلينا حين تضحك، لذلك تبعتها كجملٍ يشمّ رائحة الماء.

وجدت العشرات يتربّعون على الأرض ويستمعون إلى المقطوعة. بعدها، أخذ مكان العازف روائيٌ قرأ فصلاً من آخر كتبه، جعل فيه الضحكة شخصيّةً ثوريّةً تتمرّد على الحكومة، وتقود جيشاً من الجماهير إلى قصر الحاكم الذي يتهاوى أمام الغمّازتين. تبعه طالب فلسفةٍ أعدّ دراسةً عن الضحك السقراطي، ثمّ باحثٌ علميٌّ أجرى سلسلة تجاربٍ أسمع صوت ضحكتها لخلايا سرطانيّةٍ فتابت على الفور متحوّلةً لخلايا مناعيّة. وبعدهم طلّاب اقتصاد وطب وفنون جميلةٍ وحتى تربيّةٍ بدنيّة... وغيرهم كثيرون وكثيرات، فلسيلينا أيضاً مريداتٌ طهّرتهنّ ضحكتها - كما قلن لي - من الحسد الأنثويّ.

أخيراً جاء دوري، مددت يدي إلى جيبي فوجدت قصيدةً. لم أتذكّر متى كتبتها، أو إن كنت أنا الكاتب أم لا، لكنّني وقفتُ على المنصّة وأنشدت، مقلّداً سفر التكوين:
ضحكتِ فخلق الله الأرضَ كي ترى الكائنات الكنزَ
وحين علم الملائكة أنّ في الأرض من سيسفك الدماء
خافوا أن تتوقّف سيلينا عن الضحك
قالوا فليضحك خدّاها ولو لم يضحك فمها
قالوا ألا يكفي أنّ الأرض ملعونةٌ بالتعب؟
قالوا كي لا تُعبدَ الأوثانُ اضحكي سيلينا
فَحمَّلوها ثِقلَ غمّازتين من نبيذ كروم عدن
وقالوا ها هو عزازيل الغيور
يحمل حقائبه نحو البسيطة
لأنّ الربّ أسماها أرض سيلينا".

*

اختفتْ سيلينا بعد ذلك، فانتكست حالتي كما لم تنتكس من قبل. كنت أعمل في مركز لغويّات في الجامعة، وكانت الفتاة القديمة تجلس أمامي، لقد اخترنا معاً من دون أن ندري نفس العمل، لم يرض أحدٌ منّا أن ينسحب ويترك السّاحة للآخر.

في ذلك اليوم، وبعد أن غادر باقي زملائنا المكتب، بقينا هناك نعمل على نظام المركز كلٌّ على حِدة. لم نتبادل كلمةً واحدةً، فقد انقطع حبل الكلام بيننا منذ أوقفتها قبل أشهرٍ في منتصف الجامعة صارخاً في وجهها كمن يُمسك لصّاً.

كان الوجود قربها هكذا بصمتٍ كـ"صمت الآماد الأبديّ" بعد سنواتٍ من أحاديث حاولت مرّةً أن أحصيها ففشلت، يشبه ابتلاع خمس صباراتٍ وثلاث زجاجات موادٍ مطهّرةٍ. فأصابتني فور مغادرة المكان حالةٌ من الاكتئاب الشّديد، حتى أنّ ذقني الخفيفة زادت في الليل عن قبضة يدي.

بحثت عن سيلينا، فعلمت أنها سافرت في رحلةٍ روحيّةٍ بعيدة. كنت أعلم مكانها حين أسمع في نشرات الأخبار عن أشياء نادرةٍ تحصل في مكانٍ ما من العالم، كسقوط الثلج في بلدٍ لأوّل مرّةٍ منذ العصر الجليدي، أو اكتشاف مئات الأزواج من طائرٍ منقرضٍ، أو انتخاب شاعرٍ رئيس وزراء.

كان غياب سيلينا وحضور التي لا أحب تسميتها عصيباً عليّ. كنت أمشي مضطرباً في ساحات الجامعة لساعاتٍ متواصلةٍ. لاحظت وقتها زيادةً عجيبةً في عدد الملتحين، الماشين مثلي ومثل شخصٍ ينتظر خبر ولادة زوجته التي حذّرها الطّبيب من الحمل بعد فشل المحاولة قبل ذلك أربع مراتٍ.

استمر الأمر أسابيع لا أذكر عددها، وبينما كنّا نهيم ذات يومٍ بلا بصيرةٍ، سمعنا أحدهم يهتف بصوتٍ هزّ أركان الجامعة والمدينة التي تحتويها: "عادت سيلينا... عادت سيلينا".

حينها، شاهدنا أنفسنا تغادر الجامعة أفواجاً، كأننا خيوطٌ تحرّكها يدٌ لامرئيّةٌ، متّجهين على الأقدام نحو بيتها، الذي بدا أنّ الجميع يعرفون طريقه، من دون أن يعرف أيٌّ منّا كيف يعرفه.

وقفنا تحت نافذتها، كانت مغلقةً فارتجفنا جميعاً. وقفنا حائرين ننظر في وجوه بعضنا البعض، حتى أخذ فمي ينادي وحده سيلينا، فقلّدني الجميع صارخين: "سيلينا... سيلينا...سيلينا".

فُتِحت النّافذة. أطلّت سيلينا برأسها الجميل، نظرت إلينا نظرة عتابٍ لذيذ، ثمّ ضحكت لنا... فأبصرناها بعد طول انتظار، تلك الضحكة الخلّابة المرصّعة بغمّازتين تنفخ الفراشات في بوقهما.

عادت سيلينا إلى حجرتها. تركت النّافذة مفتوحةً. تأخّرت ضحكتها قليلًا باللحاق بها. نظرنا إلى بعضنا البعض، فأبصرنا ذقوننا تلمع وضحكاتٍ صنعتها "العقد القاعدية" تقرص الأُذنَين.


* كاتب فلسطيني من القدس المحتلة

المساهمون