كل اسم لم يسقط بعد

كل اسم لم يسقط بعد

27 أكتوبر 2018
مقطع من عمل لـ ستيف سابيلا/ فلسطين
+ الخط -

قضيتي هي الصباح

قضيّتي هي الصباح: هذا النورُ الجامع لأوائل وأواخرِ الكلام. يؤلمني منظرُ القلب وهو يتسلّقُ جدران السحب الزرقاء العابرة. أراقبُ تفتّتَ الأشياء وتناثرها وأنا أكتشف هشاشة الماضي في ما حولي.
أُطلّقُ المكانَ من تربتي وأغتسلُ بماءِ الزمن.
كم هو حميميٌ هذا النهار السّويّ، يسعى نحوي وأسعى فيه، وتتلاحمُ الأشواقُ بالدلالات وميضاً...وأحتارُ، أحتارُ من وقوفِ نفسي عند منحنيات اللامعنى وثقلِ الكلام العفوي.
كم قلتُ لعيني، صدّقيني، إنَّ فيَّ ما لا يُحْتملُ عقباه: صدأٌ وشوقٌ وقافية.
هذا الصباح المشرقُ من جبهتي، المنشقُّ عنّي وبلادي الملتهبة التائهة، يمشي معي ويمتحنني بقوّتهِ الفاتنة.

■ ■ ■

لكلّ اسم

طريقٌ متعرجٌ إلى الجسد. فضاءٌ ملدوغٌ بالحروف. خطىً من تعاليم الوقت والهاوية. البداية غناء، والنهايةُ سؤال. جمعٌ يتحرشُ بمفرد: ذاك يحسبهُ نقطة، وآخرون يرون به غابة، وصاحبهُ يحملهُ، هوية وذكرى وجرح وأمنية وملاذ أخير، وربما تعب. يعلو أو يسقطُ كثيراً، وقد يذوب. يتلوى كلدغةِ عقربٍ في الصحراء أو سراب فكرةٍ تكادُ تكونُ معنى أكيداً لولا دنّو السقوف.
الاسمُ اسمي واسمُ من سَمّاني وأسماءُ صفاتي التي لم أُوصَف بها بعد.
عند المنطق يلتصقُ الاسم بمادتهِ ويأخذها إلى حيثُ تشتهي الصور. عند العاطفةِ، عناقٌ مع الشجر وتساؤلٌ عن صمت الحجارة وَبُعْدِ القمر.
يسمّى الحرُّ وليدَ نفسه، وتسمى الجميلةُ سيدةَ الأرض، ويأخذُ القلبُ الاسم على محمل الجدّ، أما الروح فلا تتوقفُ عن الخشيةِ من سقوطها معه.
الاسمُ طابورٌ خامس في مسرحِ الوجود الهش، وجبهة قتال في ساحات حروب، وودٌ كأنَّ البحر دخل في إبرةٍ وقرّر الهدوء.
أسيرُ باسمي كأنّي من سوّاه!
من اسمٍ باسمي إلى أسماء بأسماءِ الآخرين، البشر والكائنات بشتى أشكالها، الحساسين المكلّلة بـأزهى الألوان والصقور الحادة العيون والمحاربون الجدد وصنّاع السلام القدامى، تحيةٌ لكلِّ اسمٍ لم يسقط بعدُ.

■ ■ ■

إشاراتٌ من ذلك الحقل

الصباح فتوةٌ أودعتها السماءُ في أجسادنا. نمشي على أديمٍ قديمٍ خطا عليه كثيرون قبلنا، منهم مثلنا ومنهم كائناتٌ أعلى شأناً أو أقلّ قليلا. جباهنا غابةٌ تسطعُ كجبال الأحلامِ برفقةِ الشمس. حقلُ أبي كصلاته: واثقٌ ولا يتردّد عن الغبطة على أقلِ نسمةٍ تعبرُ. لا وعي في اللاوعي وحتّى الوعي حادثة. هذهِ سلالةُ العشب وتراتيل التربة. أذكرها ويدي على قلمٍ يكادُ يحرثُ عواطف قلبٍ ويعيدها لأيامها الأولى. هل النفسُ كتابٌ خرافيُّ المحتوى؟ مزخرفٌ؟
إشاراتٌ من ذاك الحقل ومن نظرات الأب في الباطن، من سرابِ الأرض إلى أحفادِ السماء. كلٌّ ينظرُ وكلٌّ يمضي: حياً في الذاكرةِ وحائراً بالحياة. وها هي حركةُ الدم، جارِ الدموع، تمسّني بالجارحِ من تردّدات الوقتِ. هادئٌ في صباحٍ حميم، يتأوهُ على جدران أليفة. ماردٌ من نورٍ وصمتٌ جافٌ في اللغة. مَنْ سيتجدّدُ في هكذا مدينة؟
سلامٌ لروحِ أبي وزيت زيتونه المنسيّ والمُسجى في هذه الخاطرة.

■ ■ ■

منظر يفضي إلى هدوء

البحرُ من بعيد إغراء. السماء الزرقاء الممتدة في الأعالي سعة. شعاعُ الشمسِ المنثور في الأفق صلاة.
القصيدةُ بنتُ التكاثر في الألوان.
أأذهبُ هناكَ وأمارسُ هواية التشبّث بالبحر؟ أم أبقى هنا وأصابُ بحيرة أين أذهب؟
لا تبدو الأشياء كما في الطبيعةِ. يحينُ وقتٌ آخر وتتغيرُ هي وأنا. أسمعُ صوتاً لم آلفه من قبل: من تربى على مرضٍ لن يشفى منه. أقولُ له: ما هو مرضي؟ يقول: الإيمانُ بالحبِّ رغم كل علامات المستحيل؟
تضمّني روحي إلى أرواحٍ أُخرى. يجمعني بها وأشتاقُ لنفسٍ تلاقيني عند العمق.
بعد البحر والتفافِ القلبِ على العقلِ
أُصابُ بالهدوء عند آخرِ نقطةٍ في دمي. وأنام.


*شاعر فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون