المخطوط السحري

المخطوط السحري

22 يناير 2018
)من عمل بعنوان "جاك بريل" لـ ربيكا بلير)
+ الخط -

الأفعى التي تسلّلت إلى الحديقة

الأفعى التي تسلّلت خلسة إلى الحديقة
في غفلة من الأطفال وهم يلعبون...
الأفعى التي كانت تبدّل ألبستها
كلما حل فصل الصيف كي تظل جميلة...
الأفعى التي كانت تغار من جمالها ليليث
وهي تهيم في البراري ليلاً...
الأفعى التي كانت كلما غرّد عصفور
انتبهت لغنائه وظلت تفكر فيه...
الأفعى التي حلمت ذات ليلة بالتحليق
في سماوات الاستعارة...
الأفعى التي عشقها رجال القبيلة
وتصارعوا من أجلها دونما رحمة...
الأفعى التي كانت تتكلم بلسانين دونما عناء
وهي تخاطب ذاتها...
الأفعى التي ادّعى الشعراء معرفتهم بها
دون تقديم دليل ملموس...
الأفعى التي كانت قد سرقت نبتة الخلود
من غلغامش المفتون
ولم تأكلها كما ادّعت الحكاية...
الأفعى التي كانت تنام كلما حل فصل الشتاء
كي تعيش في حياة أخرى...
الأفعى التي كانت تبكي شوقاً
كلما سمعت أورفيوس يغني..
هذه الأفعى الفاتنة الشديدة الإغواء
لم يكتب عنها أحد سواي.


■ ■ ■


الغراب الذي وُلد أبيض اللون

الغراب الذي وُلد أبيض اللون دون رغبة منه
الغراب الذي لم يطرق بابي في ليلة مظلمة
كما فعل غراب إدغار آلان پـو...
الغراب الذي لم يخدعه الذئب ذات لحظة
في الحكايات الشعبية
الغراب الذي لم يكتب أحداً عنه من قبل
الغراب الذي رفض العودة إلى السفينة
بعدما حلّق في الهواء...
الغراب الذي يسخر من الجميع
حين يتعوّذون من رؤيته...
الغراب الجميل الذي تعشقه الجنيات
كلما رأينه يمشي متبختراً...
الغراب الذي لم يقلد أبداً مشية اليمامة
ولا اهتم بجمالها...
الغراب الذي كان يشعر بالحزن
حين يعود إلى بيته وحيداً...
وحده هذا الغراب الفاتن الجميل
يستحق العناية الشعرية.


■ ■ ■


الرجل الذي كان يمشي مسرعاً

الرجل الذي كان يمشي مسرعاً نحو مكتبه
كلما نزل من السيارة...
الرجل الذي كان يبحث عن بدلة سوداء
من طراز رفيع ولم يجدها...
الرجل الذي كان يضع دائماً ربطة عنق حمراء
قصد جلب أنظار النساء إليه...
الرجل الذي ارتقى في وظيفته إلى أعلى المراتب
دون خسارات تُذكر...
الرجل الذي كان ينتقل من بلد إلى آخر
على متن الطائرات الراقية...
الرجل الذي كان يلعب وحيداً
قرب بيت العائلة وهو طفل صغير...
الرجل الذي تزوّجت به المرأة التي عشقها
طمعاً في ماله ليس إلا...
الرجل الذي كان يحلم بأن يصبح شاعراً مشهوراً
مثل فكتور هوغو، ولم يتسنَّ له ذلك...
هذا الرجل نفسه لم يجد أحداً يسعفه
حين فاجأته ذبحة صدرية وهو جالس في مكتبه
صباح يوم أحد حزين.


■ ■ ■


الديك الأحمر البهي

الديك الأحمر البهي ذو العرف الجميل
الذي كان يمشي مختالاً في مشيته...
الديك الأحمر الذي كان يصيح كل صباح
كي يمنع شهرزاد من الكلام...
الديك الأحمر الذي اشتراه السيد عبد الكبير
كي يوقظه لصلاة الفجر بدل ساعة الحائط الكبيرة...
الديك الأحمر الذي كانت تعجب به كل دجاجات الجيران
حين يصدح بصوته البديع ...
الديك الأحمر الذي كان الطفل الصغير يراقبه بفرح
وهو يعلن عن حضوره...
الديك الأحمر الذي لم يبض بيضة واحدة في حياته
وتم الافتراء عليه في ذلك..
الديك الأحمر الذي تغنى بجماله الشعراء في قصائدهم
بدون علمه...
الديك الأحمر الذي حين كان يتصارع مع باقي الديكة
يهزمها واحداً واحداً وأمام الجميع...
هذا الديك الأحمر ذاته خرج من بيتنا ذات نهار مشرق
ولم يعد إليه بتاتاً.


■ ■ ■


الكتاب الذي كتبه شاعر حزين

الكتاب الذي كتبه شاعر حزين
في ليالٍ ممطرة ..
الكتاب الذي لم يجد ناشراً
يتبنى طبعه دون مقابل...
الكتاب الذي رمت به الزوجة من النافذة
وهي تلعن حظها التعس...
الكتاب الذي لم يحتف به أحد من النقاد المعروفين
في الساحة...
الكتاب الذي ظل حبيس الأدراج
ولم يوزّع كما يجب...
الكتاب الذي تأثر به العديد من الكتاب
دون أن يشيروا إليه بكلمة...
الكتاب الذي تمزّقت أوراقه
عند بائع حبات عباد الشمس...
الكتاب الذي أحبته فتاة في مقتبل العمر
دون أن تعرف كاتبه...
الكتاب الذي قد يكتبه بعض الكتاب الموهوبين
وهم في أوج عطائهم فيصابون بالإحباط...
الكتاب الذي اشتراه سائح أجنبي يعرف اللغة العربية
من سوق الكتب المستعملة بالصدفة...
هذا الكتاب نفسه
حين تُرجم إلى لغات أخرى عالمية
حظي بالجوائز الكبرى.


■ ■ ■


الليلة التي خرج العاشق فيها

الليلة التي خرج فيها العاشق
يبحث عن معشوقته التائهة...
الليلة التي ظلّ الشاعر فيها ساهرا مع أصدقائه
في مقهى قرب الشاطئ دون أن يكتب شعراً...
الليلة التي غنى فيها طائر الكناري
دون أن يحس بغنائه أحد من المارة...
الليلة التي ولدت فيها القطة الجميلة
خمس توائم بألوان مختلفة...
الليلة التي امتلأت فيها شاشات العالم
بكل أنواع الموسيقى...
الليلة التي لم يراجع فيها التلاميذ دروسهم
كما جرت العادة...
الليلة التي لم يشاهد فيها عاشق السينما
أفلامه الطلائعية...
الليلة التي لم يكتب عنها غارسيا لوركا
ولو قصيدة واحدة.
الليلة التي لا وجود لها
في كتاب "ألف ليلة وليلة"...
الليلة التي منحتني فيها صديقتي الفرنسية
عطرا باريسياً جذاباً...
الليلة التي اشتريت فيها وردة حمراء
وأهديتها لفتاة نزلت للتو من المترو...
الليلة التي لم أقرأ فيها صفحات من كتاب
كما كنت أفعل دائماً...
الليلة التي اتصل بي فيها العديد من الأصدقاء
من أجل التهنئة...
الليلة التي لا تكاد تشبه بقية الليالي الأخرى
هذه الليلة ذاتها
لم تكن سوى ليلة رأس السنة.


■ ■ ■


المدينة التي تمشي النساء فيها جذلى

المدينة التي تمشي النساء جذلى
في شوارعها المضيئة...
المدينة التي يرتدي فيها الرجال قبعاتهم السوداء البهية
كلما خرجوا ليلاً...
المدينة التي تباع فيها الكتب المستعملة
بأثمان مناسبة جداً...
المدينة التي يخترقها نهر المحبة من كل جوانبها
المدينة التي تجمع بين الجن والملائكة
في رحاب ساحاتها...
المدينة التي تتربّع فيها مقاهي الثقافة
بشكل أسطوري...
المدينة التي تحتفي بتماثيل الجمال
في كل ممراتها...
المدينة التي يمتد فيها البرج إلى أعالي السماء
في سحر باهر...
المدينة التي يتربّع فيها قوس النصر
في شموخ الرموز...
المدينة التي تشابكت فيها أقفال الحب العتيقة
بكل حرية...
المدينة التي تغنّى بها شعراء العالم
في الأيام الذهبية الخالية...
المدينة التي سئم منها بودلير
حين تعب من التجوال في حاناتها الليلية
المدينة التي مشى فيها رامبو
بنعال من ريح هائمة...
المدينة التي كتب عنها ميللر مداراته الملأى
بشغب الفتنة والغواية...
المدينة التي كانت عيداً يومياً
لهمنغواي أيام شبابه...
المدينة التي التقى فيها سارتر بسيدة أحلامه
وهو يدخّن غليونه الوجودي...
المدينة التي ضاعت في ردهاتها نادجا الجميلة
المدينة التي رسمها بيكاسو بشكل سوريالي
في لوحاته العديدة...
المدينة التي غنى عن جميلات شوارعها جاك بريل
وهو يتصبّب هوى شجياً...
المدينة التي كتبتُ عنها رواية جميلة
ذات سنة عابرة...
هذه المدينة نفسها وصلني منها البارحة
ديوان شعر مغربي.


* باحث سيميائي وشاعر وروائي مغربي، من مجموعاته الشعرية: "عاشق غرناطة العربي"، و"العابر في الليل إلى مدن النهار"، و"أيتها الجميلة بين النساء"، و"مزامير أورفيوس" و"مديح الموناليزا".

المساهمون