جرس خشبي

جرس خشبي

17 نوفمبر 2017
(غرافيتي في أحد شوارع مدينة مديين بكولومبيا)
+ الخط -

المقطع التالي رحلةٌ بدأها أخ اسمه "أد" مع أخته "سور" وزوج الأخت "تاش". في زيارة قريبهم "بيتن" الذي يعيش سكرات الموت، والذي كان قد أرسل رسالة تقول، إنه يحتاج للتحدث إلى الأخ قبل موته. تسير الرواية وفق إيقاع الطريقة التي يعيشون بها حيواتهم، كاشفةً عن أحاسيسهم وغرائزهم.

أدْ الأخ أسيرُ حملٍ فائضٍ من وعي الذات والتحكم بالنفس، ما يجعله يفكر بمرور الوقت، أن هذا الحمل سيقلبه من كينونته الحيوانية إلى كينونته الوحشية. إنه الراوي للفصل الخاص به. بعد ذلك، سنصادف "حيواناتٍ" أخرى و"وحوشاً" أخرى، بل وحتى "قاتلَ وحوش". والمقصود هو أسلوب ونبرة الحيوانات الرامزة في الأدبيات القروسطية.

نجد أن ذلك، ضمن صيَغٍ مختلفة في ما يسمى اليوم العالم الثالث أو على الأقلّ في كولومبيا، بالغَ الشبه في بُناه الشعائرية بأوروبا القرونِ الوسطى. إن المواجهة بين وعي الذات ولغز العنف، مما خلقته الطبيعة أو ما ارتكبه أناس آخرون، تولّدُ استجابات متطرفة، وتكاد تتاخم الوهم.


اســتهلال 

وصيّة العم بيتن


حيوانات. كلّنا حيوانات. باستثناء المتموّجين المورِقين، الذين وُلدوا لكي يتماوجوا أو يقعوا في الشواش. لكن أولئك ينبتون من أنفاسهم وحسب، لا ينمون ويزدهون من اقتيات الرحيق ومن الضوء، ونحن لسنا من بين هؤلاء. مهلاً، فلنعد إلى شَرطِنا. كلّنا حيوانات. نؤدي ما تمليه حوافزُنا وأهواؤنا.

نحن مُستنفَدون في سبيل ما نحتاجه في كلّ لحظةٍ راهنة، وسنفعل أي شيء للعالم، أو لبعضنا، أو لأنفسنا لكي نفوز به. لدينا المشاعر الجيّاشة، لكننا لسنا مرتبكين. نحن نكذب ونقتُل ونستبدّ. نحن نأكل، ونترك الآخرين فريسةَ الموت. هذا ما يُسمى بالحياة. عالمنا حافل بالسحر والشعوذات.

العنف الذي نمارسه، كما دماثتنا وحزننا، لا جدوى منه. إننا نعاني أو نزدهر مثل أي شيء قبل أن تعاني أو تزدهر اللامبالاة المهولة بالمخاطرة. نشاهد ونسمع ونُحِسّ بالأشياء التي ليست في المتناول، إذ هكذا هي الطريقة التي تعمل وفقَها المشاهدةُ والسمع والإحساس. ما نؤمن به في وهلةٍ بعينها مرتبط بمخاوفنا وآمالنا.

حدَثَ مراراً أن نظرنا إلى أن شَعرَ امرأةٍ مُرسَلاً باكتماله إغواءٌ للملائكة. أحسسنا بالحاجة في موقف ما لأن نلعنَ أشجارَ التين. لعنّا أنفسنا كبشرٍ قذري الشّفاه. حين السّقام، آمنّا بأن الآخرين سيشفوننا فنذرنا الأضاحي. بعثنا بالأولاد إلى الجبال، وفي ظننا أنّ هيئاتهم سيعتريها التبدلُ حين عودتهم. وكما أسلفتُ، كلّنا حيوانات. البعضُ منّا أُسود، والبعض ثعالب، وآخرون نعاج. غير أننا جميعاً حيوانات.

ثم يحدث أن يحلَّ الندم الأول. ومع الندم الأول، يأتي التبصُّرُ. مع التبصّر الأول، يأتي الضمير. وحين نعي أَثَرَتَنا، أو وحشيتنا، نُدرك أننا عالقون في مستنقعٍ أبديٍّ ليس للعَودِ منه سبيل. وها نحن الآن نبدأ بلعن أنفسنا، لا لأن اللعن أُمليَ علينا وإنما لأننا بغيضون. تصبح ضآلةُ أرواحِنا متناهية الصّغر مسألةَ فِطنة.

هذا التبدّل في وجهة النظر يبدو بجلاء للعيان ضمن الجماعة. وهذا الأمرُ على وجه الخصوص ناشزٌ، لأنه ليس مسألةَ أن المرء الذي يكابدُ هذا التبدّلَ إنما يبدِّلُ من سلوكهِ أو سلوكها، أو يصبحُ أقلَّ تعطّشاً للدم، أو أَثَرَةً، أو توحّشاً. لا، بل إن التبدّل الوحيد في أن يكون متنبِّهاً بقوة إلى أن الفردَ هو تلك الأشياء مجتمعةً.

إنها مسألة وقت ريثما تعي الجماعةُ أن هذا التبدلَ قد حدَثَ لدى فردٍ من أعضائها، رغم أن البعض أكثر مهارةً من غيرهم في إخفائه. عند هذا المفصل، يعبرُ الشخصُ من كينونةِ الحيوان بكل ما ينطوي عليه من براءة إلى كينونة الوحش. هؤلاء الوحوش منبوذون، يترحّلون عادةً من قرية إلى أخرى، أو يبيتون في الأماكن النائية العصيّة على الوصول. تُلقي الخرافاتُ بهؤلاء الوحوش في مهلكة استثنائية حين الجائحات أو الكوارث. قد أُسبغت عليهم كافة ضروب القدرات السحرية، ويُظَنُّ أنهم يتقنون كلَّ أصناف القذف واللعنات.

وكواحد من هؤلاء الوحوش يعيش أيامه الأخيرة، فإن ما يؤنسني على وجه الخصوص هو وافدٌ حديث العهد على عالمنا الثنائي المؤلَّف من الحيوانات والوحوش. إنه بطل اغتسلَ بالصلاحِ وحُسن الطويّة ظهَرَ لكي يهدّئ من روع جماعاتنا. وهؤلاء الأبطال معروفون كقَتَلةِ وحوش، وما يضمرونه في دخائلهم من إشعاع الطيبة والنقاء قد حلَّ لكي يشيح إلى الأبد الظلمةَ والريبة اللتين استثارهما الوحوشُ ما بيننا.

سيعثرون على كلٍّ وحشٍ منهم، متوارين في عرائنهم، وبجرجرتهم إلى الضوء، سيُجهزون عليهم للأبد. سيخدمون الجماعةَ بقتل الوعي. إن صلاحَ وشموخ أنفسهم بلا حدود، ومع ذلك لا يزالون تحت الخطرِ الجديّ في أن يتحوّلوا إلى ما يصيدونه ويقتلونه. كلّما تجاسروا على الحدّ الفاصل وهو موئل الوحوش الطبيعي، يُرَذّون بالشك، ويُلطَّخون بالارتكاس، ويُلقى عليهم الضوء الكالح الذي تطرحه جثةُ وحش تستعر فيها النار. أيضاً، ويا للغرابة، قلّما تنتهي رواياتهم على أكمل وجه. ثمة شيء يحيقُ بعفّتهم وبراءتهم مما يولِّدُ الريبةَ في أوساط جماعة الحيوانات، وهذه الجماعات ستقرر، في نهاية الأمر، أن تلتهمهم أو، على أقلِّ تقدير، أن تلفظهم خارجها.


(1)


بدأتِ العبّارةُ بالتحرك. خلَفتْ منطقة القصب وانزلقنا إلى العَدم. وبينما وقفتُ على متنها أرقبُ قامات رجال العصيّ في ضوء المشاعل، تأمّلتُ الأخت وفي ما قد وعيتُه اللحظةَ. ليس للحيوان من خطايا. جلستْ على حافة العبّارة تتطلّع لا (نحو) بل (داخلَ) شيء ما لم أستطع تبيُّنَه. كانت أختي وكنتُ في ذلك النهار قد عرفتُ أمراً عنها لم أعرفه من قبل. تساءلتُ ما الشيطنة التي تُضمرها تجاهنا.

بانزلاقه معنا، استثار الضوءُ الآتي من لهب المشعلِ انعكاساً خافتاً من الظلمة الملساء للبحيرة، ضوءاً صقيلاً، وتواصلَ الصمت وقارَبْنا المركز حيث أعماقُ البحيرة السحيقةُ، بدأ هذا الضوء المنبعثُ يتجلى أكثر فأكثر وجهاً لملاك، مهما تبدّى مبهماً لأولئك الذين على ظهر المركب، إلا أنه استطاعَ بَسْط غشاء نورانيٍ على سبخات البحيرة الضحلة، وهكذا كفانا شرَّ اللوياثانات العصية والمهولة التي انفلتت من إسارها ودفعتْ باتجاهنا الاحتمالَ الذي كانت قدِ احتوتْه الظلال، احتمالَ أن نُبْتَلَع.

الآن، فوق الأعماق، تحوّل رجال العصيّ إلى رجال مجاذيف، وبدتْ راحاتُ المجاذيف المديدةُ كبتلات تُزيّن زهرة لوتس في انسياقها العبثي مع الماء. وما حولَها، بدتِ البحيرةُ تتسع أو تتطاول داخلَ الظلمة دون أن يحدث الاتساع والتطاول في الآن ذاته، كالمساحة التي تتركها لمسةُ إبهام على إبهام وسبابة على سبابة. كانت كل محاولة لتقدير البُعد بلا جدوى. كنّا في العدم، وتشمّمَ تاش الهواء بعصبية، أربكه تلاشي الوُجهاتِ. أصبح الزمن استعراضاً مموسَقاً يتحلّل وسطَ الكثافةِ إلى سكونٍ، وخِفّة، وإحكامٍ في مواجهةِ ظلمة لا تني تتكاثر. رُفعتِ المجاذيف، التمعتْ لوهلة، ثم انثنتْ عائدة دون كلل إلى تخويضها الكئيب.

ستكون الغابات التي كنا نرودُها بين حين وآخر على الجانب الآخر من البحيرة اللامتناهية على نفس القدْر من الرتابة والسكون. لدرجة أن طاقم القارب دهنوا بخطوط حمراء عموديةٍ جذوعَ الأشجار الأقرب إلى مكان الرسو لتمييزها عن مثيلاتها المحيطة بها. لن نلبث أن نلمح القصبَ الممتدّ من الشطّ ومن ثم رويداً رويداً ضربات الفرشاة الحمراء تلك، ويظهر أننا نطفو فوق القصب الأخضر في منطقة الظلّ المتكاثف.

أخيراً حين ندنو منه، نجد أن قشرة هذا القصب تخضّبتْ بمزيج الرماد والقَذَر، علقَ على سوقٍ نحيلة متقاربة للغاية لتعطي الانطباع بالمناعة ضد الاختراق، أو على الأقل بتصيُّدِ كلّ من تسوِّلُ له نفسه الدخول. أدركنا أن هذا ما كنا ننجرف باتجاهه، وربما الفكرة مبرَّرة لمدى الاتساع المتلألئ الذي خبرناه فوق مركز سطح البحيرة. ومن قلبِ اتساع مطبق وانسيابٍ متَّئِد يتلوه اتساع آخر، اندمجَ ضوءُ مشاعلنا في كلٍّ واحد. أدركنا ما نحن مُقدمون عليه، فقد عشنا هذا البُعْد من قبل.


(2)


"انتزعتُ منها وعداً بأننا سنعود إلى بيوتنا. قلتُ لها إني لن أقوم بالرحلة ما لم تنطق بوعدها". كان الصباحُ مخاتلاً في توهجه، والشمس في حيّزٍ ما قريب. كنتُ أثناء ذلك قد أويتُ إلى إغفاءتي الكئيبة الباهتة، إلى مُختبَأٍ، إلى ما لم يكتمل بعدُ، مُذ تجاوز الأمر حدود طاقتي في ما يتعلق بالحدث الذي كنا مُقْدِمين عليه. رغم أن كلمات تاش وصلتني بدقةِ المنمنمات المطرّزة بالحساسين. كانت هذه طريقته، أن يخطو بعناد باتجاه الفردوس، حتى لو كان الأمرُ ترحالاً في دائرة مغلقة.

تدافعتِ الغيومُ أمام الريح، طريةً، متناغمة، التَمَّ بعضها على بعض كأنما شملَها جناحا بجعة، لكن بطريقة ما، ليس (داخلَ) الأزرق بل (فوقَه).

لم أعد أرقب عراءَ السماء الصباحية، شعرتُ أن عينيّ قاسيتان كالحجارة. على نحوٍ ما غمرتْهما كلمات تاش الحارةُ الزاهية، وسيكون من دواعي سروري أن أحفظهما، عينيَّ في تلك الوهلة. سيكون من دواعي سروري أن أَخيطَ السماءَ جِراباً لأجلهما.


(3)


لم أدرك كم كانت كلمات تاش الصغيرة النقية صعبة التحقيق. لكنني شهدتُها في الظهيرة، مع توغّلنا في الغابة المحيطة بالبحيرة. رأيتُها (في) و(حول) "سور" في تلك اللحظة بالضبط.

كنا نعبر الغابات تحت جرس مطر خفيف لبعض الوقت، وأوشكنا على الإسراع للانحدار إلى وادٍ صغير كي نحظى باستراحة وجيزة حين وقع فجأةً ما يحول بيننا وبينه. مالت الأشجار دفعة واحدة، بغتةً باتت أقرب، متآمرةً كما الخيزران. كان هناك اخضرار في الجو. تألّقت الظهيرة كمطر ربيعي أصابَ دفئاً في وريقات مِلعَقيةِ الشكل.

وكمثل عنكبوت الغابة، أنزلَ الضوءُ سيقانه عبْرَ فرجات الأشجار الرطبة. كلّ ذلك باعَدَ ما بين هذه وتلك، كان جرسُ السّديمِ الغشاءَ الوحيد. ثمة مِدقّة كبيرة رسمت دوائرَ حوله، ولوهلة لاحت للعيان. أتُراها فزِعت إلى السماء مطرقةُ الجرس الخضراء؟

ثم سمعنا ضحِكات "سور". كيف تقرع مطرقة كأعضاء ذكرية أعالي الغابة، فليَطرقِ اللحاءَ المبتلّ، مثل فراشة تطير بمحاذاة خشب السياج بلامبالاة نحو نافذة مضاءة. هاجتِ الأشجارُ كوكرٍ يُؤوي أرواح ثعالب، ولم نستطع رؤية "سور" في أي مكان. الثعالب، الثعالبُ تأتي إلى منابت جذوع الأشجار. احتشدتِ الظلال بالثعالب. ضحكات "سور" التي طاردتها الريح أنبأتني الكثير. قد كشفَتْ عن نفسها بتواريها، كما يفعل قليلو الخبرة. أطراف الأذيال. الاحمرار. التَّشَمُّم.

وجدنا "سور" وقد تكورت وراحتْ في سُبات قرب مركز الوادي الذي لـمّا نبلغه بعد، لعلّ مسحة الضحك لم تفارقْ وجهها. كانت ملابسها جافة تماماً، كأنها لم تكن برفقتنا في الفترة الأخيرة. هباء أبيض، علقَ في الأخضر، كانت بلا زينةٍ في حضرة نيسانٍ/ إبريل ماكر.
مالتِ السماء إلى الزرقة.

مرة أخرى نشدّتُ مُخْتَبَأً. شجرة كاميليا عملاقة تصدّرت الوادي، انتثرتْ مآبر أزهارها المتساقطة حول "سور"، أغصانها المتشابكة المتفرعة في كل اتجاه اليي حجبت السماء تشق طريقها إلى العمق، تخوّض في بعض ماءٍ حيث تحللتْ أعمال صالحة سوف لن تضيع، بعضِ ماءٍ طلِقِ الروح، آلَ أزرقَ.

أغصان الكاميليا، نَسْجٌ مُزَّيَّنٌ هدّار، انقذفت في شتى أرجاء الداخل. شعرتُ بأن جسدي ممّدّدٌ، مكسوٌّ بقاربٍ من لحاء يثير جذعُه الاختلاج، أنساقُ فيه. إلا أن الكاميليا لم تعرف شيئاً عن الاختباء والنِّشدان، التجحّرِ والظهور. تلك كانت ألاعيب "سور" التي شغلتْ ذهني في الوادي.

لم يسأل تاش أيّما سؤال لكنه نحّاها كأنها لم تكن أكثر من رزمة تنتظر الحرق، دون أن تعيق المسير. فلتؤمن بهذه الشجرة، قلتُ له. هدّأ من ارتعاشات اليقظة الأولى لدى "سور"، فتوسّدت ذراعيه لوهلةٍ أخرى. كانت قامتها مقطعاً لفظياً مفرداً يطوف مع الهواء المجلجل. وفيما أرصدُ ما يحدث، حاولتُ أن أكون "أنا". يستطيع الحيوان أن يبني عشّه أو وِجارَه في أبغض الأمكنة. ما بين الفتائلِ المتألقة داخل شبكته، كتبَ العنكبوتُ كلمة ماما بخطّ "بالمر" متقن.

تحت الأشجار، ثمة ظل، مُقفَرٌ، مُقفر. كلُّ ما هو مرئيٌّ عابرٌ. الذاكرة تهرسُ الفاكهة. يتخمّرُ العارُ في ارتعاشاتٍ نَدِيةٍ عميقة الخرَس، تكوّمتْ مُبهمةً قصيّةً لكنها لم ترحل أبداً. بدَر عني حفيف بينما أحملُني. تاش، عذباً وسخيّاً، كطعم اليامِ، حمَل "سور" بثبات نحو الطمي على حافة البحيرة.

تهْتُ في ما بعدُ، كما من قبلُ. أنتقلُ إلى خشبات العوّامة وها ندنو الآن على متنها من الطرف القصيّ للبحيرة.


(4)


بدأ الطنين من جديد ورجِعَ الزمن. ظلّلَ القصبُ الغطاءَ الأخضرَ قريبَ المدى. الموضع الأقرب يعمّه السكون، ذؤاباتٌ من ندى البحيرة تشبثتْ بسطح الماء الذي توشّى الآن بالأوراق. ساكنين، متكورين وسط القصب، ثمة ما طوَّقَنا مرة أخرى، ولمحتُ عينيّ "سور" تبرقان تحت المشاعل. بعيداً عند الشطّ لاحتِ السبخاتُ بأجماتها الكثّة المتناثرة التي غُسلتْ بتموّجنا الطفيف.

في جَوْنٍ صغير، انتصب بلشونٌ أبيض ساكناً لفترة طويلة قبل أن ينتقل من مكانه.

عبرْنا شراذمَ ظلالٍ كانت لا تزال تفصلنا عن البرّ. من عمقها، ألْقتْ هذه الشراذمُ مسحةَ فيءٍ على الأرجواني والأخضر من النبات. جثَتْ "سور" قرب الماء عند طرف مقدمة العوامة، ولحظةَ التفتُّ لأرى ما كانت تفعله، تغبّشتْ معالم جسدها الخارجية ولم يعد بالإمكان تمييز حركاتها. رأيتُ تاش يخطو نحوها بأناةٍ. كانت شيئاً ما آنياً وعفوياً، راقصةً في قيعان الأنهر الجافّة، شيئاً ما يجلب له المرءُ الفوانيسَ.

أمامنا، تشظّى الهواء. ثمة شجرة متداعية على الشاطئ القصيّ، توطّن فيها طائرُ "التّدرج" قبلَ أنْ طارَ وهجَر. تحت الحفيف والرفيف كانت الزهور البيضاء إكليلاً للصوت. هي الزهور ذاتها التي حفّتْ بالشط الذي غادرناه ولا ريب أن بذورها قدِ استغلّتْ طيور المراكب كي تعبر بها إلى الشط المقابل. هبّتْ نسماتٌ عبَرَتِ الظلامَ على شكل عبابٍ (نحوَ) و(حَول) "سور" وكأنها في غرام معها.

وبينما علقتِ العبّارةُ فوق شيء ما وأنزلوا الزلاجة ثم شدّوها بالحبال، خطر لي أن تاش كان ذكياً ما يكفي لانتزاع وعد منها. لأن الوعدَ أمرٌ سهل، لمسةٌ يتبادلها الأولاد. كان للهواء طعم مُرّ، شيء ما نَتِنٌ وحادٌّ فيه، استقبل أولى خطواتنا على الأرض المُدهِنة مرة أخرى. نظرتُ إلى ضربات الفرشاة الحمراء التي اجتزناها والتي بدت اختزالاً زاهياً وصارماً للمسافات. كنتُ وعْدَ "سور" الذي جعلنا نعبر المياه العميقة ونجتاز القصب والسبخات. كان الوعد الذي فرَشَ أجنحة الملاك الوضّاءة.

خطر لي ذلك الوعد المتوقّد لحظةَ عبرْنا البوابةَ الحمراء لندلف بعدها إلى الغابة.


كولومبيا وما تكتبه

ماذا يكتبون اليوم في العالم الهسباني أو في أميركا اللاتينية، وما هي آخر تيارات السرد هناك، وما هي أشكال السرد ونزعاته في كولومبيا مثلاً، البلد الذي أخرج غابرييل ماركيز؟ وما هي المشاغل الفنية لكتّاب الرواية؟

النص (مطلع رواية) المنشور أعلاه هو لواحد من أبرز كتّاب كولومبيا الجدد؛ Mario Ángel Quintero وهو كاتب قصة قصيرة وشاعر كولومبي من مواليد سان فرانسيسكو، كاليفورنيا عام 1964 حيث نشأ. درَس الآداب في جامعة كاليفورنيا، ونال منحة والاس ستغنر للأدب من جامعة ستانفورد. نشر القصة القصيرة والشعر والمقالات بالإنكليزية تحت اسم "جورج أنجل" George Angel.

يقيم كينتيرو منذ 1995 في مدينة ميديين، كولومبيا، وهناك نشر مجموعاته الشعرية بالإسبانية، "خريطةُ الواضحِ" (1996)، و"تتضاءلُ الروح إذ تشقُّ طريقها نحو ليمبو" (2009)، ومسرحية "كيف تموت في حديقة أحدٍ آخر" (2009). يكشف نصه أعلاه عن حساسية سردية جديدة في أدب بلاد صاحب "مئة عام من العزلة".

* ترجمة: أحمد م. أحمد

المساهمون