عصفور مي

عصفور مي

17 أكتوبر 2017
(مي زيادة)
+ الخط -

كان اليوم يوم جمعة، في مثل هذا النهار أحب سماع أذان المصريين، وأتساءل دوماً لماذا ينسى الناس علاقة الدين بالغناء والموسيقى والترتيل؟

ما زلت أذكر ذلك كأنه الأمس، انتهيت من حصة البلاغة المتعبة بشد الانتباه وسرد القواعد بالتحايل على الحافظة، ثم التطبيق على الشعر وحسن الكلام. كل حصة بلاغة عراكٌ، الطلبة لا يحسنون التمييز بين التشبيه والاستعارة، وبين الكناية والمجاز. أنهيت الدرس وأقفلت محفظتي الجلدية، ودخلت في معطفي، وخرجت من الكلية من الباب الخلفي حيث الزيزفونة العملاقة، أحب هذا الباب، كان المصريون القدامى يقدّسون الزيزفون كشجرة خصب وحياة. انعطفت لا ألوي على شيء.

كانت السماء جد غائمة دون مطر، رياح تعبث بأوراق الأشجار. كورنيش المدينة خال من غير بعض الصيادين والحالمين والشحاذين. وألم نسائي مشئوم يحاول تبرير حزني. وسرت على غير هدى أستبطئ مجيء الليل. استبدّ بي شيء لم أستطع تبيّنه، هل هو حلم؛ أم ذكرى؛ أم محض سؤال، عصفور تأكل قلبه نسور وتعبث بريشه القرمزي الرياح.

كلما تذكرت ظلم الطبيعة خف وطء بطش النبلاء بالفلاحين وعبث الرجال بالنساء. وسرت محادية البحر، أكلمه ولا يكلمني، أنا أكلم البحر دوماً وهو دوماً لا يسمع بثي. في البحر يأكل السمك الصغير الكبير، ويتمتع الآدميون بالتحايل بالطعم يحمله الشص المسنون. وهناك في المدينة ألف مصيدة وألف صياد.

حضرتني ذكرى الثلاثاء الماضي أيضاً وكالحمقاء ضحكت، حضرتني القامات الأدبية الرانية إلى ابتسامتي التي أبخل بها عليهم في خفر المراهقات وأنا التي أقهقه كل صباح أمام المرآة. أنا أحب أن أرى البدلات تحتك بي وتتوسّل وتتمسّح. هي مسرحية يمثل فيها كل واحد دوره، هم الذكور كجمع مفرد، وأنا الأنثى كمفرد جمع، في هذا الشرق الغبي الذي حبس نصفه وراء الأبواب والترهات. لعبة المطاردة هذه لذيذة يختلط فيها المطربشون بالمعمّمين، والكل يرقص على نغمات الأدب والنقد والبلاغة والذكاء الممزوج بالبلاهة.

وأنا غارقة في ذكرى التوسّلات؛ والعصفور الجريح؛ ورقص العقلاء، فجأة خرج من بين الغيوم، في السماء الدنيا، خيط شمس مذهب وسلط على زجاج مكتبة، ولمحت صورتك. يا إلهي ما هذا الجبين؟ ذكرني تواً بتلك السفوح اللبنانية غير المزروعة التي عندها تنتهي الجبال وتبدأ السهول تخترقها الروافد. يا إلهي هذا وجه روافد أعرفها حق المعرفة وتهت في تلالها ورعيت فيها الأغنام والأحلام والأفكار.

لو كان هذا الرجل الشنبي أخي ما تلبّسني الخوف في أمسيات الشتاء عندما أمرّ بالأزقة المظلمة وعيون الرجال الحمقى تأكل من جسدي. لو كان عندي مثل هذا الرجل لفتحت صدري للرياح ولحاربت العالم وحدي. يا إلهي كم هو مليح صاحب هذه العيون الناعسة. هذه العيون، التي تأتي من بلاد بعيدة جداً، تذكّرني بالمروج الخضراء عندما تبدأ ثلوج القمم تذوب. مثل رسائل تحمل ألف سؤال وسؤال عبر شرفات المنازل، تسقط منها المعاني يتصيّدها الطير.

منذ تلك اللحظة قرّرت أن أكون عبداً. وجهك نقيض وجهي تماماً، في وجهي اكتناز وشجن، ليس بالذي مضى وإنما بالذي يأتي، وبوجهك سكينة الداركين العارفين. وشعرك إلى الوراء، كأنك ترمي الدنيا كلها إلى النسيان، وشعري نصفين كقدري، نصفه تشدّه الأنوار ونصفه الآخر تكبله أسرار العادة والتكرار والهمجية.

وتلك الغمزة في الذقن، يقال لها اكتمال الحسن وطابع المرور دون استئذان. الغمزة تشق الذقن بالتساوي هندسة الرشاقة والتناغم والدلال. تخيلتك تضحك فتخرج غمازتان أخريان بجانبي الفم. هذا الوجه دون شك يملك روحاً لا تتجاهل ذكاء ومواهب الآخرين.

أحب هذا الرجل. في ذلك المساء الاستثنائي رجعت إلى غرفتي بعد اقتناء ورود وشوكولاته ونبيذ. وكتبت على ورق صقيل: أحببتك حتى قبل أن أراك. سمعت عن وسامتك وعذابك، وحدهما الوسامة والعذاب يكفيان جواز مرور لقلب يهفو لمن يجيبه عن هذا الخراب الشرقي العظيم.

نمت تلك الليلة كما ينام طفل نال أولى جوائزه.

اليوم يوم أحد، أيقظتني أجراس كنيسة صغيرة قرب نافذتي. قررت أن أذهب إلى القداس وتذكرت عينيك. ما علاقة القداس بعينيك؟ لست أدري لكني كلما حرّك الكاهن القبطي المبخرة وأسهب في الحديث عن التوبة والحلم والصدق تذكّرت عينيك. قلت هذه العيون التي ترى ما يقال شعراً؛ ويكتب نثراً؛ ويرسم لوناً، لا بدّ أنها ليست كأي عيون. هي عيون إيمان عميق بما وراء السماء. نحن معشر النساء نفكّر بالعيون في العيون.

ورأيتك راعياً يعزف بيد على ناي وبأخرى تمسك بريشة وترسم الوجوه، وحدها الوجوه تستحق أن ترسم. أشعر أحياناً أنه في الكنيسة كما في المساجد، وكل المعابد نبتعد عن الله، وأننا نقترب منه جداً عندما نقدر على الغواية وتجتمع لها كل توابلها ونعف. وفي كتبك رأيت العفة التي عرفتها وعشتها أنا، وكتبتها أنت رسائل للناس، كل الناس.

ثم حل فصل الربيع واستجمعت قواي وكتبت لك، في الربيع يحدث شيء ما في قوانين الكائنات، يهاجر من الطير من يستطيع، ويخرج من الأرض من يريد أن يعانق الشمس، وأنا أكتب لك عن مثل هذه الأشياء؛ وعن مساعدة البعد والكتابة عن التعبير وشجاعة البوح. وأحياناً أشعر بك معي، خاصة في أيام الثلاثاء حيث تتحدث عنك غيرة الأصدقاء وأبتسم. أنت تحضر لأنك تفهمني حتى وأنت غائب، هم أيضاً يفهمونني لكن على مستوى الأدب فحسب، أما أنت فتفهمني على مستوى معاناة وجود كتب عليه الذكاء والقوة في بلد يريد النساء ضعفاً وبلاهة.

أحياناً أشعر أني وردة بلدية نبتت في الشتاء، وأحياناً أخرى أشعرني طائراً فقد الاتجاه. في الربيع نجنّ ونبث الشكوى لمسام الأرض والماء والريح. في مصر لا توجد أرض بكر، كل الطبيعة المصرية مستصلحة، وكل الأشجار مثمرة، نحن أهل الجبل نحن للخلاء وبث النجوى والصياح. الواحيون ينادون ولا يصيحون. والرعاة عندنا حتى يؤنسون وحشتهم يحدثون أنفسهم، الجبال مسكونة بالحوريات والجن، وتذكرت الناي والغناء وسر الوجود وسطور الماء التي كتب بها الناس.

في نهاية الربيع سافرت إلى باريس ولندن وبرلين، كنت أتمنى أن أتحرر من الشرق وأن أرى النور. ورأيته فعلا، حضرت صالونات الأدب؛ ورأيت النساء في المسارح تضحك ملء ما شاءت، ورأيت صداقات المتزوجات مع من يصادقن. ورأيت من يتاجرن، ورأيت من يمتطين الجياد، ورأيت ورأيت.

وحينما رجعت بدأ حزني.

المصريون يتكلمون كثيراً عن الحب ربما لأنهم وضعوا نسائهم وراء الأسوار، الواحيون منطوون، خاصة المدنيون منهم، أما اللبنانيون فهم أكثر طلاقة، يمكن أن تصادف النساء في الجبل في كل مكان. ربما لا يشبه لبنان في هذا الجيل العربي سوى مراكش، بلد مدنه أندلسية لكن معظم الناس جبليون.

الطبخ المصري غير متنوع بصل وفول وبقول. أعددت البارحة حمصاً متبلاً بالليمون وكوسا ورق عنب. تتعدّد أذواق العرب لكن المرجع المحوري هو الصحراء، العربي لحمي ولبني وإن كثرت توابله، الصحراء هي الملهمة، لا أدري ما السر في ذلك، ربما الشعر، وربما القرآن.

بدأ حزني يكبر خاصة لما أجاهد نفسي في عدم مكتابتك، ولما أجاهد نفسي في تمثيل البتول والعاشقة في آن.

وحلّ الخريف وتضاعف حزني ولم أعد أقوى على الذهاب إلى الكلية. أصبح لدي وعيان، أحدهما تعب والآخر يهدهد ويعالج ويقاوم. وتمنّيت لأول مرة لو حضرت، على الأقل تسند ظهري وأحكي لك آلامي التي ما حكيتها لأحد. أشعر، وأنا أعلم أني مخطئة، أن كل الناس أغبياء.

زارني أصدقاء الثلاثاء ولم أكترث، كنت أقرأ الشماتة في عيونهم وأنا أعلم أنها الشفقة، وأنا أكره أن يشفق عليّ أحد، ومن الرجال خاصة. أصبح الرجال مقززين لا لطف لديهم ولا أناقة. وتمنيت أن أجد امرأة أحبها وتحبني ونعيد بناء الدنيا. على الأقل النساء يستطعن أن يصبحن أمهات.

في منتصف الفصل الحزين أدخلوني المستشفى.

وذات صباح ماطر أيقظتني الممرضة من نوم مضطرب ومدت لي ظرفاً أبيض مخيف. لقد حجزوا كل ممتلكاتي الفكرية والمادية، الكتب والجواهر وكل ما أملك. يومها فهمت أن جرائم العرض في الشرق لم تكن من أجل العرض.


* كاتب من المغرب 

** رحلت مي زيادة في مثل هذا اليوم؛ 17 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1941. 

دلالات

المساهمون