أن تستيقظ عند السادسة صباحاً

أن تستيقظ عند السادسة صباحاً

04 سبتمبر 2016
مقطع من عمل لـ شوقي شمعون/ لبنان
+ الخط -

أن تستيقظ عند السادسة صباحاً، فإذا بك مُمدّد على سرير أبيض في غرفة بيضاء بسقف خشبي أبيض ونافذتين تطلّان على جبل كولسيرولا، وفوق ذلك محاط بشجر الصنوبر والأرز وشقشقة العصافير، فلكأنك في حلم.

تقوم وتستحمّ وتصنع كوب شايك الأخضر، فإذا بـ "بارتيميو" الحارس العجوز مستيقظ. تتكلّمان همساً في صالة الطعام، لئلا تصحو الرضيعة الأوكرانية، وتعود إلى غرفتك في الطابق الثاني، أقصى الشرق، لتتأمّل هذه الساعة من النهار، والكل ما يزال في سريره.

الغرفة الملاصقة لك حيث العائلة السلفادورية بأفرادها الأربعة. والعائلة الفنزويلية المكوّنة من الطفل دييغو ابن العاشرة وأمه الثلاثينية التي تقلب كل خاء في لغة ثيربانتس إلى هاء. والجار الثالث، العملاق بقلب طفل "رومان"، الذي يناديه مواطنوه الأوكرانيون هنا بـ "روما"، حيث تعوّدتَ على غنائه في مساءات نهاية الأسبوع، حين يكون عبّأ الطاسة في الخارج، وجاء ليستدعي أبعد نقطة في وجدانه.

إنك لمحظوظ وقد مضى عليك أسبوعان في هذه الجنة العابرة للقوميات والوطنيات.

أمس اتصلت "ألبا" وتكلّمتما، وقالت إنك اخترت بيت اللجوء. وكأنها تقول تحمّل ولا تشكُ فهذا نتيجة اختيارك. لا تعرف الشابة الكتلانية ذات الشخصية الجادة أنك أحسنت الاختيار هذه المرة على غير عادتك في المغترب.

عندما ستلتقيها يوم الثلاثاء المقبل، لتقرآ في الأمسية المزمع إجراؤها في مدرسة اللغات مع العازف الكردي، ستقول لها يا ألبا أنا في الجنة. دعكِ من النظافة والطعام الذي يُقذف نصفه في الزبالة ـ من زود الترف ـ وانظري لموقع البيت، وسط هذا المنتجع الجبلي وهذه الدارات القديمة لأحد كبار أثريائكم من أوائل القرن الماضي. إن "سارّيّا" معروف كحيّ للأرستقراطية العليا في كتالونيا إبان زمن فرانكو الذي هو ـ بالمناسبة ـ من أنشأ معظم الصناعة الكتلانية في القرن العشرين.

أنت في الجنة بحق، سيما حين تقف على شبّاكك وتتأمّل زرقة السماء وكثافة خضرة الغابة من حولك، بينما السفن الكبيرة تمخر البحر في البعيد، فيما تكون خلفية كل هذا وصلات غناء مسكرة من شحارير سود بمناقيرها الصفراء.

تراها وتدمع لأنه قُيّض لك أن تعيش هذه الأبدية الصغيرة، متوحّداً مع مفردات الطبيعة، فيما سكّان المنزل العشرون (وقد قدِموا من القارات الخمس، متجاوزين شرطَهم الكابوسي، ويؤاخيهم الآن الأملُ في حياة كريمة) يطاردون أحلامهم وكوابيسهم في بياض الأسرّة.

المجد لهذه الساعة: المجد لهذه الساعة الممكنة المؤقّتة في هذه الجنة الممكنة المؤقّتة. الممكنة المؤقتة مثل وجودك الممكن المؤقت. عبورك أيضاً. أنت يا حيوان المعنى، أيها الهاذي ـ دون روشتة طبيب ـ ثلاث مرات في الأسبوع، لأن الخيار الآخر هو الاندغام في الواقع الفاسد.

والآن إذ يبيضّ الأفق، وتتضح تدرّجات الأخضر في نبات الجبل، فإن إحداث معنىً لهذا النهار الوليد، لَهُوَ، في أُصبوحة تموّزية كهذه، أول أحلامِكَ الصغار.

المساهمون