رمضان في البلد الآخر

رمضان في البلد الآخر

26 يونيو 2016
الجامع الكبير في كوبنهاغن
+ الخط -

مطر الصيف في المدينة الأخرى ينهمر بلا توقّف. الصوت لا يشبه ما كان على سطح بيت تتوزّع فيه بضع شمعات لقضاء كل شيء، بما فيها الواجب المدرسي. إنه مطر مختلف يسقط على رؤوس الأشجار، ليس كمطر عشت على صوته يوماً في الجليل.

كنا نتراهن، أنا وإياه - صديقٌ عابر في غربة ليست عابرة - على ذكريات رمضان آخر، فكم يبدو رتيباً رمضان هذه وتلك من مدن الشمال. لعبتنا تكشف لنا لوحة أخرى من لوحات رمضانات مررنا بها.

واحدة، تتأمل فيها ما في الآخر وفيك، تشي بأنك، وإن كنت مثقلاً بذاكرة تجمع فيها بعض بؤس فلسطيني في "حوش السبيس"، تزيد من فسحتها، وأنت تستغل نعاس المدينة في حر ذلك الصيف الرمضاني، لتجمع ما تيسّر مما يسمى "تين السبيل" أو تقطف صبّاراً بيدين عاريتين، وتبحث عن أكياس إسمنت فارغة، لتصير أكياساً ورقية أنيقة بيدي "الحجّة" الفلسطينية، صاحبة الوشم على وجهها.. إلا أنه كان رمضاناً جميلاً..

اعترفتُ بأني كنت أتظاهر بالصوم في صغري، وأسترق النظر إلى عاشقين في "المقبرة الفرنسية". من يعرف "المزة"، التي كانت قبل أن يجرف بعض معالمها الزمن، يدرك إلى أية مدينة تعيدني ذاكرتي الصغيرة.

نزولاً، تترك مدرسة "الزهراء" على شمالك، ومقابلها بيت رفعت الأسد المتعدد الطوابق.. نحو اليمين، ترى الياسمين يتدلى من بيوت، لا تعرف لمن.. تمشي إلى أن تصل مشفى يافا حيث تقف منى واصف لتمثّل شيئاً ما من كتابات غسان كنفاني. زمن انقضى.. وها أنت وصديقك العابر تلعبان لعبة اكتشاف لوحة لا تشبه الحاضر.

في المدينة الأخرى، يبدو رمضان كمن يسحب الناس، وهم مثقلون بأوجاع يحملونها معهم.. الزمن هنا، لا يقاس بسنوات خمس، من تغريبة لا تشبه ما استفقت عليه في طفولتي.. يخفف عن هؤلاء متجر محمد الشايب، الغربي الطراز، والذي أكثر من وجهه الشرقي منذ أن بدأ يأتيه هؤلاء الباحثون عن خبز وبعض ما يذكّرهم برمضانهم الآخر. هو يقول: "رمضان هنا لا يمكن أن يكون كما كان.. وهناك لم يعد كما كنا".

المساجد والمصليات، على حواف المدينة، تحاول أن تبتسم للصائمين، لكن جرحاً غائراً، يصعب الوصول إليه، يظل يُلقي بظلاله الجافة على اختلاف التوجهات، لكل مسمّاه: سلفيون، إخوان، جهاديون.. تحريريّون وغيرها من اختراعات صحافة بالكاد تعرف شيئاً عما يعني أن يكون الجرح بهذا العمق.

يقول صديقي "سنصلي العيد جماعة.. موحّدين في قاعة كبيرة.. كما كل عام، لنثبت بأننا لسنا مختلفين". لم أكن في مزاج رائق لأقول له: كذبتنا الكبرى باتت مكشوفة يا صاحبي.

يُحَمّل رمضان ما لا يحتمله في الغربة، بينما الناس تحمل بعضها، وتردّد مع كل صغيرة وكبيرة "اللّهمّ إني صائم"..

ما أجمل أن تتذكر يوماً من أيام الشهر، في مدينة أخرى تحتفظ بصورتها في درج من أدراج ذاكرتك، وتظل ترى في الأفق، ربما لأحفادك، ظل من ظلال هدوء وسكينة.

(كوبنهاغن)

المساهمون