الممحاة

الممحاة

03 سبتمبر 2015
خالد تكريتي / سورية
+ الخط -

مقهى رخيص بإضاءة خفيفة، كراسي من الخشب، صاحب المقهى يتسلى بورق الشدة على طاولة بالقرب من المدخل، وهو رجل في الستين من عمره. "ق" زبون يقرأ في كتاب وقد جلس بأكثر نقطة مُضاءة في المقهى وهو في الستين أيضاً، بينما "س" و"ع" جلسا على طاولة في منتصف المقهى، "س" يشرب الشاي وهو في الأربعين، بينما "ع" يحتسي القهوة وهو في الأربعين أيضاً.

س: حاولت إخراجه المرحاض ولكن دون جدوى.

ع: كان عليك أنْ تتركه على الطاولة قبل ذهابك إلى المرحاض.

س: لا يمكن أنْ أتركه على الطاولة.

ع: وهل تظن أني سأعبث به.

س: لا، أنا أثق بك.

ع: لماذا لم تتركه إذاً؟

س: توقعت أنْ يتصل بي أحد ما.

ع: (يضحك) لم يتصل بك أحد منذ شهر، لا أحد يتصل بك.

س: لذلك شعرت أنَّ أحداً ما سيتصل.

ع: تستطيع معاودة الاتصال بمن اتصل بك فور خروجك من المرحاض.

س: ربما يكون اتصالاً خارجياً، لا أملك رصيداً خاصاً بالمكالمات الخارجية، وربما مكالمة مستعجلة لا نفع من معاودة الاتصال في ما بعد؛ فالكلام الذي يكون طازجاً على لسان المُتصل غير الكلام الذي يأتي بعد معاودة الاتصال به، وربما يصبح كلاماً آخر، ربما يدعي صاحبه شيئاً أخر غير الكلام الذي أراد قوله في لحظة الاتصال، وحين نعاود الاتصال يكون قد أخذ قراراً آخر في جوهر الكلام الذي كان يود قوله.

ع: ربما!

س: بل أكيد

ص: (وهو يعبث بورق الشدة ودون أنْ يرفع رأسه) حتى لو استطعت إخراجه لن ينفعك بشيء، إنه المرحاض، وليس نهراً، ماء النهر نظيف، لو وقع هاتفك به ربما تستطيع إصلاحه بعد إخراجه، لكنه من المُحال أنْ تخرج هاتفك من المرحاض وتصلحه بعد ذلك.
إنها فضلات الإنسان يا رجل.

ق : (دون أنْ يرفع رأسه عن الكتاب) العرق، البول، البراز، القيء، وفي أغلب الأحيان الكلام، كذلك الكلام في أغلب الأحيان يكون من الفضلات.

ع: هذا صحيح. صحيح جداً

س: (بشيء من الغضب) لا وقت للفلسفة. كان ثمة شيء في الهاتف يجعلني أبقى بحالة توازن، الانتظار، الترقب، حدث ما، خبر موت أحد ما، فموت أحد ما يجعلنا نحزن أو نفرح، وبالتالي نجد طقساً ما نحرك به مشاعرنا من خلاله.

ع: هذه فلسفة، أمر غريب يا رجل!

س: ما الغريب!

ع: تقول لنا: لا وقت للفسلفة، وتتحدث بها.

س: معك حق، ولكن ثمة فرق كبير بين سماع الفلسفة وبين التحدث بها.

ع: أنانية ونرجسية

س: لا لا، حالة اضطراب لا أكثر، حين أكون مضطرباً ليس بوسعي سماع صوت غيري.

ع: كل هذا لأجل هاتف سقط في المرحاض.

س: والأسماء التي به.

ع: (يضحك) الأسماء.

س: وحسابي على الفيسبوك، أنا لا أحفظ كلمة السر الخاصة بتسجيل الدخول، كنت أدخل فقط من خلال الهاتف بعد أنْ قمت بتغير كلمة السر، نسيتها.

ق: الفيسبوك! (يضحك)

ص: (يضحك) سمعت هذا الاسم من أولادي (يضحك) الفيسبوك.

ع: وهل كنت تنتظر شيئاً ما من خلال الفيسبوك؟

س: لا أعرف بالضبط، ولكنه مكان يعج بالناس، يمنحني شيئاً من الفوضى التي أحتاجها في هذا الوقت العصيب.

ع: هاتفك وحسابك على الفيسبوك، مكانان مملوآن بالأسماء، لكن دون جدوى.

س: ربما.

ع: بل بالتأكيد.

س: أنا أحاول التخلص من الأسماء، وأنت تصر على البحث عن الأسماء التي ضاعت منك، لقد سقطت في المرحاض، أحسدك يا رجل.

س: هل تقصد أنّ سقوط هاتفي في المرحاض شيء جميل؟

ع: (يمد الكلمة ويمنحها لحناً) طبعاً.

س: (يبتسم) هذا حدث إذاً

ع: بالتأكيد

س: حدث يمنح الشعور بالأسى أم الفرح؟

ع: ليس مهماً طالما أنك تبحث عن حدث يحرك مشاعرك كما قلتَ منذ قليل.

س: حقاً (يبتسم) أشعر بالأسى، وأشعر بشيء من الفرح في الوقت ذاته، منذ سقوط الهاتف وأنا أشعر، جميل أنْ أشعر بأي شيء، أيَّاً يكن، ففي وقت مضى كنت أظنُّ أنَّ الأحداث توقفت في حياتي (يبتسم) لقد سقط الهاتف وكان حدثاً.

يضع "ق" كتابه في الحقيبة ويدفع حسابه ويغادر، يدخل زبون جديد، يرحب به "ص" و"س" و"ع"، يغادران بعد دفع الحساب وهما مسروران كل السرور.


* كاتب مسرحي من سورية

المساهمون