هناك إلى جانب أمي

هناك إلى جانب أمي

21 مارس 2015
لؤي كيالي / سورية
+ الخط -

لم أشأ أن يمرّ اليوم من دون أن احمل لها وردة تحبها، وزجاجة عطر "ريف دور".

لطالما أحبّت هذا العطر على قدم موضته. ورغم كل الماركات الحديثة، إلا أنها أبت أن تغيره. عباءة سوداء لا زينة فيها أيضاً، وشال أسود، وإن رافق كل هذا خاتم ذهب يليق بأصابعها النحيلة ستكون فرحتها عارمة.

زيّنتُ هديتي بشريط أزرق، لأنها طالما أحبت البحر. كنت أنتظر بفارغ الصبر فنجان قهوة وسيجارة حمراء طويلة صحبتها.

كانت حين تشرق ابتسامتها يشرق الكون.

وهي التي تنتظر هذا اليوم من كل سنة كما طفل ينتظر عيداً. من الصباح تضجّ بنشاط لا نعهده منها في الأيام العادية.

في اليوم الذي يسبق تسأل: ترى ماذا سيحمل لي الغد من فرح أولادي؟
أضحك، أضم جسدها النحيل إلى صدري وأقول: اتركي الغد يحمل ما يحمل.

مع الساعات الأولى للصباح، أسير الهوينى إليها، كل ما حولي مُحمّلٌ بالصمت. ورغم الهوينى بخطواتي، إلا أن الصدى يضخمها.

أطل من النافذة؛ لا أحد في الشارع، ليس سوى تراب ودخان كثيف. أعود إلى الصالة وزاوية تسند فرشة اسفنجية خفيضة كانت تريح جسدها، لا أجدها. يملأ صوتي البيت: أمي، يما.. يما... لا أحد، ليس إلا صوتي يملأ البيت.

أحمل هديتي وأسارع إلى الشارع الفارغ إلا مني، ألتفت يمنة ويسرة، فقط ذكريات متراكمة لأناس كانوا هنا ذات يوم. فجأة صديقتي سلوى مواجهتي تماماً، لا أعرف من أين، أو كيف نبقت لي، تسأل سلوى: ما بك؟ عمّ تبحثين؟
ما زال لساني يلهج: يما... يما..

والهدية التي لففت: زجاجة العطر والوردة والعباءة وخاتم الذهب تخشخش تحت إبطي بكيسها الذي انتقيته بعناية.

غير بعيد عنا الطفل أسامة الذي شاهدته في مقطع فيديو على اليوتيوب، حين كان يتمتم بعد أن فقد عائلته إثر برميل على بيتهم في حمص، وكان يتمتم: طيب والله سأقول لله كل شيء حين أراه.

استغربت وجود الطفل في شوارع مخيم اليرموك. لكني تركته للأزقة تبتلعه، وأسلمت القيادة لسلوى.

تقودني سلوى في طريق مهجور. تسير بي وسط الحفر والأتربة، وركام البيوت. وبين فينة وأخرى، يمزّق الصمت صوت ضخم يدفعنا للالتصاق بجدار ما زال واقفاً.

يطول مسيري وسلوى، ندلف سوية باب حديدي مخلّع، فإذا أنا وهي في أرض موغلة بصمت أكبر.

رخام كثير مكسر، ودرب طينية، الحفر كما الأسراب، كل سرب يجاور آخر. لكن ثمة تجاوزات لسرب على آخر بحفرة فوضوية.

تتوقف سلوى أمام شاهدة مكسورة، تشير بإصبعها، ثم تهمس هنا.

أسال ماذا تقصدين؟
تجيب ودمعة تحاول أن تبتلعها: أمك هنا، قدمي هديتك التي تستحق، واتركي لها فرح هذا اليوم.

لساني ما فتئ يلهج: يمّا يمّا، وأنا أضع الوردة على ما تبقى من الشاهدة، وسلوى تحاول أن تلملم ما تناثر من قبر أمي بفعل قذيفة عمياء، وحين تنتهي من لملمة تراب قبرها وعظامها، تترك لي فرصة أن أفرد العباءة على القبر، ثم أضمخ التراب بالعطر الذي تحب، أما عيناي فتسألان سلوى: والخاتم؟

الأذان يكبّر للفجر. أسمع صديقتي وهي توقظني لأرى شروق الشمس على بحر مرمرة. في تلك اللحظة، أدركت أن الأموات يمكنهم أن يحلموا. فأنا كنت مُسجّاة بلا حراك. صديقتي التي كانت توقظني ما إن قرصها برد أطرافي حتى صرخت.

أذهلني أن تصرخ؛ لأني في اليوم السابق لعيد الأم، كنت قد رتبت ضمة الآس من حدائق المنازل في يالوفا، المدينة التركية التي يحتضنها بحر مرمرة، وكنت قد زينت ضمة الآس بورد يشبه ياسمين دمشق. في العشرين من آذار أيقنت أن ليس كل ما نتمناه ندركه.

كنت أرغب بقبر هناك جانب أمي. وأعرف ما يحمل هذا العيد من مرارة لأمهات كثر وأولاد كثر، لأن الحرب ابتلعت الكثير من الأمهات والأولاد. لكنها السكينة لي الآن. ضمة الآس إلى جانبي، وأنا بكامل موتي، ووصيتي ببعض ريحان ينثر كل سنة للجهات الأربع. للأمهات الباقيات على قيد الحياة كل الحب، وكل ورود الأرض، للأمهات الشهيدات ضمة آس مضمخة بالحب والفقد، ولي أنا ضمة آس على شاهدة مجهولة.


* كاتبة فلسطينية سورية 

المساهمون