بهذه الأحذية؟ لا أظن..

بهذه الأحذية؟ لا أظن..

13 ديسمبر 2015
(تصوير: كريس بولاند)
+ الخط -

هناك القليل جداً من المشاكل التي لا يمكن أن تحلّها الأحذية.

أنا في "مطار بن غوريون"* أتأمل جندياً إسرائيلياً يفتش في ملابسي الداخلية بجهاز الكشف عن المتفجرات، مسلحاً ببندقية (MTAR-21)، وبجسده المفتول العضلات في بزّة عسكرية لا تشوبها شائبة وبابتسامتة الكاسحة. خطوط دفاعي هي مدفعيتي الخفيفة من أثر الشرب بعد سهرة الأمس في رام الله، ومن ترديد أغنيتي المفضلة في رأسي بعد أن كنت أستمع إليها على الآيبود إم سي 699، قبل أن يجبرني أمن المطار على تسليمه للتفتيش. إنه الإصدار الأول من آيبود، موديل "بروداكت"، بلون أحمر؛ هدية من صاحبي في الفالنتاين، وقد أردت استعادته.

حقيبتي ذات العجلات حمراء وردية واشتراكية كذلك، تسميها صفيّة "ماري بوبينز المذهلة": لأنها صغيرة وأنيقة، ومع ذلك فهي مصممة جيداً لتكون واسعة على نحو غير متوقع ويمكنها أن تكفيني لعطلة نهاية الأسبوع أو لعام.

بالأمس، جلستُ على سريري، وعرضت على صفيّة تلك الحقيبة المحزومة بعناية مع الأغراض لإجراء تفتيش تجريبي، "هل أنتِ مجنونة؟ لا يمكنك اصطحاب أي من هذا" وبنفاذ صبر ألقت خارجها بالكتب، والأوراق، والكراسات، والمجلات، والبرامج، والإيصالات، وبطاقات العمل، ومستحضرات التجميل، والخزفيات، والأسطوانات المدمجة، وأسطوانات الفيديو الرقمية، والعديد من الهدايا، وضعناها في صندوق كرتوني ليعاد إرساله إليّ بطريقة أخرى، ولكنّي كنت ممتعضة. من المزعج الاضطرار لانتظار كراساتي وأوراقي وكتبي وتسجيلاتي، مرة أخرى سيعطل الاحتلال عملاً مهماً لشهور أخرى، ولم يكن من الوارد نقل أي من هذه الأشياء إلكترونياً.

أتأكد مرة ثانية أنني محوت كل جهات الاتصال في هاتفي، ومسحت القرص الصلب لحاسوبي المحمول، أمسكت صفيّة كتفي، "هيا يا صديقتي، دعك من هذا، الجميع قادمون إلى المقهى لوداعك، دعي العبوس وابتسمي، إنه وقت الاحتفال".

ظهر أبو عميد في منتصف السهرة، كان متورداً ومنهكاً، وكان يلوّح مزهواً بكيس بلاستيكي أحمر كبير يحمل العلامة التجارية الأسطورية لورشهِ ومحلات أحذيته باللغتين العربية والإنجليزية:

رحاّلة
صنع في فلسطين

كنت قد أزعجته بلا هوداة لينهي صناعة حذائي قبل الرحيل، دفعت بجرعة سخية من عرق (صابات) إلى يده، وأعطاني الكيس غامزاً بعينه، "جرّبي ارتداءها حبيبتي، وتأكدي من ملاءمتها لمقاسك". وبينما أضع قدمي في زوج الأحذية عالية الكعب الكلاسيكية العذراء الرائعة التي صنعها أبو عميد، التقطت صفية الكيس الأحمر البرّاق ذا العلامة التجارية والصندوق وأخذتهما بعيداً.

الحذاء مصنوع من أنعم الجلود البيضاء، وشعرت أن التوزان مثالي، كما لو أنني أمشي على السُحب.

أحب للأحذية أن تكون ظريفة إلى حد ما، وأن تكون صناعتها معروفة المصدر، وأحبها ألّا تأخذ نفسها كثيراً على محمل الجد.

الكعب العالي رائع في قائمة الأحذية الكلاسيكية، فهو راقِ، يطوّل الساق، ومعترف به عالمياً، إنه السفير الدبلوماسي للأحذية، الأنيق والمستهان به، ويخفي واقعية سياسية خلف مظهره الخارجي اللطيف المتناسق. اختيار الجلد الأبيض دعابة صغيرة بالنسبة لي، تحيّة تهكميّة للأميرة ديانا ولصحوتي الجمالية المراهقة –إن جازت تسميتها بذلك- في الثمانينيات.

أدار "مو" إحدى أغنياتي المفضلة، وبكل نضج فتاة في السادسة ترتدي أول حذاء حفلة لها، تراقصت في المقهى مستعرضة حذاء الأميرة ديانا. رشف عميد العرق، ونقر بقدمه مستحسناً، وابتسم لصنعته المتقنة، كانت الأغنية "في تلك الأحذية؟" للراحلة العظيمة كيرستي ماكّول، وكنت أحمل تسجيلها معي في كل مكان.

"استمري، اجتهدي في التمثيل، أداء جدير بجائزة الأوسكار. من فضلك، لا مكالمات طارئة في منتصف الليل، نحن مرهقون جداً، دبّري حالك، التزمي حرفياً بالسيناريو الذي تدربنا عليه، فقط تذكري، مهما فعلوا، مهما قالوا، لا تجادلي، لا تفقدي أعصابك"، خبطت صفية باب التاكسي وذهبت أنا في طريقي إلى أرض الخيال. متجهمة، عبرت بنقاط التفتيش، وبّخت نفسي لأنني لم أصرف ما تبقى من وقت ونقود على مرور يُحتمل أن يكون أسهل، عبر الأردن. بدّدت مالي على الأحذية عوضاً عن ذلك، يا لحماقتي، وتباً لسخافة الاحتلال، وتباً لبن غوريون ومطاره.

حذاء الأميرة ديانا كان محشوراً في حقيبة يدي، فكرت في صفية وهي توصيني أن أؤدي دوري ببراعة، وأن ألتزم بالنص عن ظهر قلب، ولكن لولعي الطبيعي بالجدل، ولشرود ذهني، فقد أخرجت الحذاء وارتديته.

وها نحن ذا، "ماري بوبينز المذهلة" تستلقي مفتوحة الساقين والذراعين على شريط التفتيش، محتوياتها منبّشة ومتناثرة ومرمية على مدى ثلاثة أمتار. ماري بوبينز المذهلة يجري تقطيع أوصالها –هذا ما أفكر فيه بينما أصرف نفسي إلى الهدوء الداخلي، أعيد تشغيل أغنية "في تلك الأحذية؟" في رأسي– الأغنية التي كنت أسمعها على الآيبود قبل قبل أن يجبرني الجندي العيّوق على تسليمه ويبدأ التقليب في ألبستي الداخلية، من الجيد أنني دائماً ما أرتدي ملابس داخلية من الدرجة الأولى: مؤسف أنها ليست كلها نظيفة.

نزع الثياب الأمني هذا كان بطيئاُ ومتعمداً على نحو مستفز، سيستغرق الأمر س-ا-ع-ا-ت. ثلاثة منهم يفتشون حقيبتي، واثنان ينبشان محتويات حقيبة يدي، وواحد يفحص اللابتوب.

بالنسبة لي، حان الوقت لأقيم حفلة ذهنية في أذني الداخلية مخصصة بكاملها لـ "في تلك الأحذية؟"، بكل النسخ التي يمكنني التفكير فيها، أحدق بثبات في الجندي الشطّور، وأفكر أنه لن يستطيع أبداً أن يعيدني إلى أمي بالمنزل— تنطفئ مصابيح المنزل في عيني الداخلية، ويبدأ العرض.

نجمة الافتتاح هي كيرستي بالطبع، في ألبومها Tropical Brainstorm، ثم بيت ميدلر من Peace Corps مع تنويعات من نقر أبواط رعاة البقر، تليها كلوديا أكونا، تتلاعب كل ديفا منهن بالإيقاع والكلمات لتلائم حجمها وأسلوبها. تتطور حفلتي الصاخبة مع مزيج من نسخ الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات، الجنس والمدينة (كاري مانولوس) والحذاء الطويل الغريب (kinky boots)، والآن كفاصل كوميدي: كاثرين تيت في تحية جريئة وغير مدوزنة لكيرستي، وفي الختام النسخة الأفضل على الإطلاق حتى الآن، كاميل أوسوليفان، في حذاء دوروثي الأحمر ذي الكعبين الرفيعين وجوربين نسائيين مخرّمين، وصوت سماوي من هنا إلى الأبد.

انتهى العرض، أُعيدت كيرستي من بين الأموات مرتين، وجعلت كاميل تعيد الغناء ثلاث مرات، ولكن لا يزال رجال الأمن ينقبّون في أمتعتي. أحتاج لحفلة جديدة.

أعود إلى التركيز على العالم الخارجي والجندي العيّوق، إنه وسيم بشكل سخيف فعلاً. العار على هذه الوظيفة، وبينما نحن مقيدان دون ارتياح في حميمية عابرة بهذا الخبل الأيديولوجي، أقرر أننا نستحق أغنية، وتأتيني بسهولة:

مرة التقيت رجلاً لديه حس المغامرة
كانت أناقته ملفتة أينما ذهب
قال: "لنمارس الحب على قمة جبل
تحت النجوم على قبّة صخرة"
قلت: "في هذه الأحذية؟
لا أعتقد هذا"
قلت: "حبيبي، لنفعلها هنا".

كنت لا أزال أحدق فيه، بشكل لافت الآن، وأتخيل أن نسختنا الجديدة تم تشغيلها بأعلى صوت عبر الإذاعة الداخلية للمطار، أذيعت في انسجام بواسطة فرقة من كل المغنيات المثيرات اللواتي أكسبنها طابعهن. كلا، بالتأكيد لا يمكنه اصطحابي إلى أمي بالمنزل.

بعد ذلك، أصبح الأمر مقرفاً. أربع ساعات من الجدل المركز تماماً. هل تتحدثين العبرية؟ هل أنتِ يهودية؟ هل لديكِ عائلة هنا؟ هل كنتِ هنا أثناء عيد البيسح؟ لماذا كنتِ في إسرائيل؟ ماذا كنتِ تفعلين؟ أين كنتِ؟ هل كنتِ في الضفة الغربية؟ هل تعرفين عرباً؟ ما هي أسماء أصدقائك؟ ما هي عناوينهم؟ لماذا يوجد لديك الكثير من الأختام الأردنية في جواز سفرك؟ حان وقت الأداء الفائز بالأوسكار.. مرة أخرى وأخرى، الفوز من جديد، ثم التكرار.

التزمت بالنص عن ظهر قلب، ولم يجدوا شيئاً في أمتعتي، لقد أنقذتني صفيّة، وسُمح لي بالمرور أخيراً.

اصطحبني الجندي العيوق إلى خط النهاية للفوز بتأشيرة جواز السفر برقة محتشمة، وبأخف ضغطة ممكنة باليد على ظهري، كأنما يقودني إلى ساحة الرقص.

استقررت بامتنان في مقعدي، وفور إقلاع الطائرة خلعت حذائي، وفي تلك اللحظة رأيت للمرة الأولى النعل المقلوب لصنيعة أبو عميد، بعلامة مطبوعة بالذهبي البرّاق:

رحّالة
صُنع في فلسطين

(يتكرر المقطع: بأعلى صوت)
أوه حبيبتي، لنفعلها هنا.
بهذه الأحذية؟
لا أظن ذلك.


* الاسم الاستعماري لـ"مطار اللّد" في فلسطين المحتلة 

** Rachel Holmes كاتبة ومؤرخة ثقافية متخصصة في القرن التاسع عشر، من آخر كتبها سيرة إليانور ماركس.

*** ترجمة عن الإنجليزية شادي عبد العزيز

المساهمون