بعد أن نعود من حيفا

بعد أن نعود من حيفا

15 مايو 2014
من صور التهجير، 1948
+ الخط -

لم يكد يمضي النهار حتى كان كل أولاد القرية يعرفون بسفري إلى حيفا. بعضهم جاء يتمسح بي. آخرون كانوا يسألونني عن حيفا، وكيف هي، كما لو أن من الضروري أن أعرف كل شيء عنها لمجرد أنني موعود برحلة إليها.

حدثتهم طويلا عنها، ذلك المساء، على أية حال. تحلقوا حولي على صفاة في وعرة أبو جمعه، وهي تلة صغيرة موازية للتلة التي تتسلق عليها حكما. قلت لهم بأن اسمها هو بلدي المحبوب وديني. رويت لهم قصصا جعلت ابن عمي نعيم- شريكي في نصب الفخاخ لصيد الطيور- يضحك باستغراق ويصر على أسنانه من شدة الإثارة التي كانت تحركها فيه رواياتي.

لم يفهم مسلّم، وهو ابن عمي الآخر، معنى بلدي المحبوب وديني. هو لا يفهم عادة ما يقال له بسرعة كبيرة. إذ يقع ذلك على سمعه كصوت مبهم لا معنى له، فينصت أولا، ثم يبدأ في ترديد الذي قيل عدة مرات، ثم عندما يدرك المعنى المراد، يرفع رأسه ويردد ما قيل دفعة واحدة بلهجة من فهم أخيرا. بقي يردد كلمات على بلدي المحبوب وديني لنفسه بعض الوقت دون أن يتوصل إلى قرارا بشأن هذه الاسم.

ثم تساءل

- من قال لك أن هذا هو اسم حيفا؟

قلت:

- أخي محمد.
لم يكن يعجب مسلم أن يكون في المركز الثاني وخاصة أنه أقوى مني، ويستطيع أن يضربني متى شاء. وكنت أظن بأن قصصي تعجبه كما كانت تعجب نعيم ومنصور وكل الآخرين.
استفسر مني مطأطئ الرأس، كعادته عندما يشعر بالغيرة:

- رايح تشوفه هناك؟

وافترضنا جميعا بأنني سأشوفه. وعندما قمنا نتحرك باتجاه البيت، أمسك نعيم بيدي وبقي ممسكا بها حتى وصلنا. قال

- عند ما تعود نروح مع بعض نصيد البليقيات

شعرت بسعادة كبيرة وتمنيت لو أن أبي سافر بي إلى حيفا قبل أن يطلع نهار الغد.

***

حمّلوا السيارة بأكياس القمح التي سيبيعها أبي في حيفا. كان مع السائق رجل غريب آخر.

سألت عنه فقيل أنه معاون السائق وأنه سيبقى معه. سألت أين سوف نركب. لم يجبني أحد. لكني علمت بأننا سنركب على ظهر السيارة بين الأكياس التي صفت بحيث تترك بينها مكانا مذريا يمكن لي ولأبي أن ننام فيه. كان مثل غرفة صغيرة محمية من جميع الأطراف، وضعت أمي فيها فرشة صغيرة ووسائد وأغطية. قال أبي أخيرا:

- يا لله يا جماعة. توكلنا على الله

حملني بين يديه ووضعني على ظهر السيارة في المكان الذي بناه لنا. جلس إلى جانبي ثم أدخلني في فروته الدافئة، كما لو كان يطمئن أمي التي بقيت تراقبنا حتى اختفينا عن نظرها وراء أول منعطف، أنني سأكون بأمان.

تصاعد صوت المحرك متقطعا أول مرة ثم متواصلا حين استوت على الطريق. كان هديرا يصم الأذن يترك في الليل المتراص وراءنا ثقبا لم يغلق. صار واضحا لي على الفور أنه سوف يرافقنا طوال الرحلة. تمنيت لو يختفي الصوت. ولكنه لم يفعل. كان يتقطع أحيانا كما لو كان هناك شيء يحاول أن يعترض طريقه، لكنه ما يلبث أن يعود إلى هديره المتواصل. ثم كان إذا اشتد يشتد معه حولنا تيار الهواء البارد الذي تحميني منه فرة أبي في عشتنا بين أكياس القمح.

هذه هي السيارة، إذن، التي كان يتمنى نعيم ومنصور، أن يركبوها لتنقلهم عبر المسافات دون أن يحركوا قدما، أو يبذلوا جهدا. وعلى الرغم من أنني، بالأمس فقط كان يأكلني شوق لاعتلاء ظهرها، إلا أنني أحسست مع هذا الهدير الذي لا ينقطع وتيار الهواء البارد بأن هذه ليست هي. لازمني شعور، على نحو غامض، بأنني لا أنتسب لهذا المكان الموحش. كما أحسست بأن أبي عاجز عن الخروج بنا مما نحن فيه.

لكن سرعان ما امتلأ رأسي بالهدير فاستسلمت له.

أيقظني أبي في هدأة الليل. شعرت بالبرد. التصقت ملابسي بجسمي. قادني إلى جانبه عبر ممرات تنمو عليها أشجار ذات أطوال مختلفة مضاءة بمصابيح معلقة بين الأغصان. أجلست على طاولة ذات شراشف بيضاء رطبة. تقدم منا شخص ممتلئ أبيض البشرة. تحدث أبي معه. لا بد أنه يعرفه. كان ينحني كلما قال أبي شيئا. ثم أسرع بعيدا. وبعد لحظات جاءنا بصينية نثرت فيها كتل من البيض المقلي واللحم المفروم. قال أبي:

- كل.

تلك أول مرة أرى فيها بيضا مقليا مع اللحم. لم تعجبني الفكرة. لماذا البيض واللحم سوية؟ لم أتصور أنهما يصلحان للطبخ معا. كان البيض كتلا جافة بينها قطع من اللحم المفروم. حاولت أن آكل اللحم كما أشار أبي، لكنه كان قاسيا، وشعرت بأسناني تؤلمني.

[...]

دخلنا حيفا مساء خميس ما. أخذني أبي إلى بناية قريبة، صعدنا درجا ضيقا إليها. لم يكد يضرب على الباب حتى فتحت لنا سيدة سمينة مرحبة بأبي بالاسم. إنها تعرفه معرفة جيدة، هي الأخرى. انحنت لتسلم علي. مدت يدها لتصافحني. كانت تكشف عن نصف صدرها. انقبضت للمنظر. لم أستسغ قط لحم امرأة كبيرة. كدت أكره أمي يوما حين رأيتها في وضع شبيه. قالت موجهة الحديث لأبي:

-  بكرة نكون أصحاب.

قادتنا إلى الغرفة التي أعدتها. ساقاها مليئان كصدرها. سألها أبي عن آخرين يعرفهم. وجرى بينهما الحديث عاديا كما يجري بين رجلين. كانت تضحك ضحكات غير تلك التي أعرفها في حكما. فالنساء في حكما لا يضحكن. خالطني شعور طاغ بأن نساء حكما لا يعرفن الضحك كما تفعل هذه المرأة.

أفقت في اليوم التالي متأخرا. قال أبي:

- سأوصلك إلى الحسبة، ثم اذهب لصلاة الجمعة.

لم أكن أعرف ما هي الحسبة. ولكنني حدست أو قيل لي أن أخي محمد سيكون هناك بانتظارنا. كان المكان يعج بالناس والأصوات. صف من الدكاكين المليئة بكل أنواع الخضار والفواكه على جانبي ممر ضيق طويل. دلفنا إلى ساحة واسعة لا يختلف ما فيها عما رأيناه في الشارع الضيق سوى في شيء واحد. كانت هناك محاقين كبيرة من النحاس الأصفر لم أر محاقين بحجمها من قبل، أفواهها متجهة إلى أعلى. لم يكن هناك أحد قريبا من أي منها. ولكن الأشخاص الذين كانوا وراءها، مختفين على أية حال، كانوا يغنون جميعا وبصوت واحد، كما لو كانوا نفس الشخص. لكن المحاقين النحاسية اللامعة كانت ذات نهايات رفيعة وتتكئ كل منها على طاولة مثل تلك التي أكلنا عليها اللحم والبيض.

شددت يد أبي وقلت بصوت عال كاف ليسمعني وسط الضجيج:

- أي هو الذي يغني في المحقان.
ضحك أبي باستغراق مرة أخرى. كان سعيدا. قال دون أن يتوقف ليفسر لي:

 هذا هو المكبر.

لا بد أن المكبر رجل يختلف عن الآخرين وله قدرة على الاختفاء. لم يكن مع أبي من الوقت لإعطائي معلومات أكثر. دلفنا إلى دكان شبيه بكل الدكاكين الأخرى ولكنه على طرف واحد من الدائرة. قال أبي:

- انتظرني هنا. رايح لصلاة الجمعة.

انطلق في الطريق التي كانت تمتد على طول الجدار الخارجي للدكان الذي كان علي أن أنتظر فيه. كان شارعا دائريا ينتهي عند نقطة النهاية ببيت حجري ذي باب جميل يصعد إليه الداخل على درج مكون من عدة عتبات. كان الدرج محاطا بسياج من الحديد الأبيض لم أر مثله من قبل.

لن أنسى ذلك الدرج. في تلك اللحظة التي كان أبي يختفي فيها، دخلت الشارع من الجانب المقابل بنت صغيرة تلبس تنورة قصيرة سوداء وقميصا أبيض. كان تنتعل صندلا أحمر يصعد منه إلى ما فوق كعبيها جوربان بيضاوان قصيران ينتهيان بكشكش لونه كلون الصندل. صعدت على الدرجات بخفة وقرعت الباب. كان لها شريط أبيض يتدلى مع جديلة صغيرة من شعرها قريبا من عنقها الأبيض. فتح الباب فاختفت وراءه. ترى ما ذا هناك؟

فيما بعد وعبر سنوات طويلة كنت أقفز من الفراش كل مرة أرى فيها نفس الدرج والباب والفتاة، بينما تستعصي علي الأسرار التي قبعت وراء ذلك الباب، لأكتشف بأنني أحلم. لم أسمها. لم يكن هناك من الأسماء التي أعرفها ما يمكن أن تصلح لها. الأسماء التي أعرفها لا تتجاوز خمسة أو ستة، ولا يصلح أي منها لفتاة يتعلق بجديلتها شريط أبيض ناصع.

وفي يوم من الأيام بعد سنوات كثيرة، خطر لي أنها بياترس من نوع ما، تلك الفتاة الصغيرة التي تعلق بها دانتي عندما كان في مثل سني، ورآها عندما كانت في سن فتاة الدرج في حيفا، تقفز ممسكة بيد أبيها وتختفي في شارع ما مرة واحدة وللأبد، ويختفي معها قلبه يتراوح عبر كل سني حياته بين نقطة ما في المجهول وبين صدره.

دخل أخي محمد الدكان الذي كنت أنتظر فيه لابسا القنباز الفلسطيني. كان يدندن بصوته الجميل. لم يرني. اختنقت بالمفاجأة. لم استطع أن أناديه. اندفعت نحوه فاستدار عني فتأبطت ساقيه من الخلف. تفاجأ بالحركة فأخذ يدور وأدور معه. لا أعرف كم درنا. رفعني إلى صدره فدفنت رأسي هناك أقبل ملابسه.

لا أظن أنني أحببت شخصا كما أحببت محمد. كانت له رائحة تملأ على نفسي ووجودي فأمتصها من كل الفضاء حولي. وحتى عندما كان بعيدا عني لم تكد رائحته تفارق أي شيء لامسه مرة. كنت أشمها في قميص، أو فرشة افترشها أو وسادة اتكأ عليها.

كنت أعرف، يوم يفكر بالعودة إلينا من حيفا، أنه قادم ذلك اليوم. تأتيني منه رائحة خفيفة تكبر كلما اقترب في مشوار العودة منا. وعندما كان يغادر مدينة إربد إلينا على بعد خمسة كيلومترات، كنت أصل إلى حالة من اليقين بقدومه تجعلني أحدد موقعه على الطريق، فأصرخ بأعلى صوتي حيثما كنت: محمد جا... محمد جا. وأندفع للقائه.

في البداية كانوا يقولون: أهبل مثل ابن خاله، غير أن ابن خالي أخرس أطرش لا يتكلم، وأنا لا يكاد لساني يتوقف عن الحديث. صحيح أن ابن خالي يعرف كثيرا مما هو على وشك الحدوث ويشير إلى أنه يعرف. لكنني أشم رائحة أخي فقط.

في البداية كانوا يتركونني وحيدا أسرع على الطريق باتجاه إربد. ولكنهم عندما رأوني أعود به كل مرة أندفع فيها للقائه، لم يعودوا يكذبونني. وفي كل مرة لاحقا حين كنت أصرخ معلنا مقدمه، كان الأولاد يتبعونني ويتناقل الناس قصتي مدركين أن في الأمر سرا.

كان محمد يأتينا من حيفا بكثير من اللحم، يطبخه هو بيديه. فقد كان طباخا ماهرا، ويغني لنا بصوته الرخيم أغاني عبد الوهاب يابابور قل لي رايح على فين، وأغنية أم كلثوم على بلدي المحبوب وديني. ولفريد الأطرش ياريت ياريت. كان يطعمنا وينام بيننا أنا وأخي فلاح حتى الصباح. ربما لكل ذلك دخلت رائحته لتصبح جزءا مكونا من نظامي فهي تتغذى بما أتغذى به وتعيش كما أعيش وتنمو كما أنمو.

لم يكد يصدق أنني بين ذراعيه. كان يسألني سؤالا وراء الآخر محاولاً أن يعرف كل شيء. ولكنني كنت متعلقا به وبملابسه.

أجلسني على صندوق عال ومد يده إلى أعلى نحو شيء معلق من حبل في السقف. شيء أشبه بمجموعة من قرون الماعز الصفراء، معلقة على نحو ما. كانت عيناي تتحركان معه لا تفارقانه. سقطت بعض القرون في يده وكأنها كانت تنتظر أن يمد يده إليها ليسندها. تناول واحدة منها من طرفها فانسحب منها شيء يشبه اللسان تدلى على جانب القرن، ثم تدلى لسان آخر، ثم ثالث. قدمه مني وقال يالله، حبيبي، كل. فأكلت شيئا ناعما سهل المضغ كالمخ، ولكنه ليس كالمخ طعما. ابتلعته يسهولة. خذتني المفاجأة. لم أصدق أنني آكل. أشرت إليه أنني أريد أخرى ففعل. وهكذا حتى شبعت وعرفت فيما بعد، أن اسم هذا الشيء الذي أكلته لتوي هو الموز.

كنت قد شبعت عندما عاد أبي من المسجد. أغلق محمد الدكان. طلب مني أن أساعده في

ذلك، ففعلت. سألته عندما انتهينا:

- أين الرجل الذي يغني في المحقان؟

وقف أبي ينظر. حملني محمد ووضعني في فوهة البوق أو المحقان كما سميته. كانت نهايته تضيق وليس من المعقول أن يسكن هناك إنسان. أخذني إلى حيث يتكئ المكبر كما سماه أبي. تحدث شيئا مع الشخص الذي كان إلى جانب الطاولة. ثم التفت إلى وقال:

- هذا هو المكبر. لا أحد هنا. هذا الصوت يأتي من هذه القطعة المستديرة. الصوت محفور فيها. وهذه الإبرة تلاحق تلك الحفر فيه فيغني المغني الذي حفرها.

لم افهم شيئا وإن تظاهرت أنني أفعل. رفع الإبرة فتوقف الغناء. أعادها إلى حيث كانت فاستؤنف الغناء. رفع الإبرة فتوقف الغناء مرة أخرى. عندها رفعني بين يديه وصار هو يغني تلك الأغنية التي أعرفها منه على بلدي المحبوب وديني.

عندما يغني أخي محمد يختفي كل شيء إلا صوته ووجهه الحبيب. اجتمع الناس حولنا. عندما توقف صفق الناس من وراء طاولاتهم وداخل دكاكينهم. بعضهم صفّر بوضع أصابعه في فمه تماما كما يفعل الناس في حكما.

***

أخذني أبي صباح اليوم التالي إلى بيت فالح الزعبي، زوج فصل، لنفطر هناك. قال أننا معزومون. كنت أتحرق شوقا لرؤية مضيفنا الذي تعلمت أن أحبه وأحب زوجته. وقد ظننت أنني سأراها أيضا.

كانت فصل امرأة جميلة يحبها أهل حكما، وتحبها أمي بشكل خاص. كثيرا ما قالت أمي أن أهل فصل هم مثل أهلها.

لا أذكر، اليوم، من فصل سوى خلخالها الذي أحاط بساق أبيض لا زال يلمع في ذاكرتي كلما ذكر هذا الاسم ذو الثلاثة حروف فصل.

لقد أصرت، إذا أرادت أن تنزل عن عتبة عقودنا الذي سكنته مدة طويلة، على أن ترفع ثوبها الأسود الطويل قليلا عنه فيلمع الساق الأبيض والخلخال. ولقد تركت في دارنا ضحكة كانت لها رنة كرنة خلخالها، اختزنتهما جدران عقودنا ولا زالتا تعيشان هناك أسمعهما إذا أصغيت.

[...]

أُخذت بالبيت. جلست بينهم قريبا من نافذة أطلت، من حيث نجلس، على السماء. عندما اقتربت أكثر منها، تبين لي فعلا أن البيت كله، ونحن فيه، يطير فوق سماء زرقاء ممتدة، سماء غريبة تمتد في كل الاتجاهات قريبة من الأرض، بينما نحن نجلس فوقها.

لاحظ أبي استغراقي. عرف فيما أفكر فيه. قال:

- هذا هو البحر.
عرفت ماذا يعني البحر من قبل. قلت ساهما
- ميه كثيرة.

قال
- نعم. وهذا الذي تشوفه ويمتد أمامنا مثل دائرة هو بحر حيفا.

فهمت أن البيت في منطقة الهدار هاكرمل كما كانوا يسمونها. اشتراه فالح الزعبي وأخواه فلاح وخليل. فيما بعد قال لي الأستاذ محمد حسن الخطاب في المدرسة الابتدائية في قرية سحم التي بدأت حياتي مع المدرسة منها، أن الاسم العربي لها هو دار الكرمل. كان محمد حسن الخطاب معلم الجغرافيا من قرية الطيرة القريبة من حيفا.

قدم لنا فالح الزعبي طاسة كبيرة من الفخار مليئة بشيء شبيه بالحمص مدمس الذي أكلته مع أبي في المشارع، مع فارق ملحوظ يجعل لهذه الأكلة اسما آخر تعرف به، هو الفتة: وهو أنها كمية كبيرة؛ وأنها ليست صلبة مثل الحمص؛ وهي مغطاة بطبقة من السمن البلدي، وليس زيت الزيتون؛ وعليها كتل معجونة من الحمص المسلوق أصفر اللون؛ وهناك فرق آخر، وهي أنها لا تؤكل بالخبز، بل بالملاعق.

أقبلنا على الأكل. كانوا، جميعا، يتلذذون بطعمها، وأنا أستغرب ذلك. فطعمها خشن كالحمص المدمس، وهذا على وجه التحديد ما جعلني لا آكل كثيرا على الرغم من أنني أحسست بالجوع يعضني قبل فترة وجيزة من قدوم هذه الطاسة.

تمنيت لو أنني مع محمد أبتلع ذلك الموز الذي لم أشبع منه.

أخذ حديثهم على طاولة الأكل منحى أعرفه. فقد تحدثوا عن رجل اسمه الزناتي. والزناتي الذي أعرفه وأسمعهم في حكما يتحدثون عنه هو الزناتي خليفة وابنته سعدة التي أشارت عليه عندما هاجمهم أبو زيد الهلالي، في تونس، بحرق البيادر والمدينة والرحيل بعيدا عنها. وهم في حكما يضربون المثل فيها لكل من يشير مشورة سيئة. مثل سعده الزناتي، يقولون.

لكنني لم أكره الزناتي خليفة. فقد كان فارسا، يغير في الليل على بني هلال، وكاد يقتل ذياب بن غانم في إحدى هذه الغارات لولا أن ذياب استطاع أن يهرب على فرسه الخضراء السبوق. وذياب هذا جبان ولا أحبه.

على أن هذا الزناتي الذي يتحدث عنه مضيفنا شخص آخر لم يكن يحمل سيفا، بل فردا. قال فالح الزعبي:

- نط أمام الناس مثل الأسد الطليق، يابو ردن، والحكي للجميع. لا تعرف من أين جاء. أطلق النار عليه وبقي واقفا ينظر حوله بينما ذلك العلج يتخبط بدمه. ثم قفز فوق السياج القريبة واختفي مثل لمح البصر. تبوسه بين عيونه!!

- رجال والله... سمعت أنهم لم يقبضوا عليه
قالها الضيف بهمس.

فرد الزعبي قائلا بينما أبي يلاحقه معجبا بشجاعته
- فشروا... احنا وين؟؟

- برافو يا فالح... أنا أعنقر طربوشي عندما أسمعهم يقولون الأردني. أفرحني أن أحدا منهم لا يعرف من هو الأردني. بعضهم يقول الحوراني. احنا الوحيدين الذين نعرف من هو هذا الذي يتحدثون عنه.

- أنا من إيدك هاي لأيدك هاي، يابو ردن

- تعيش وتحيا والله..

ترى هل هذا الزناتي البطل هو ابن خليفة الزناتي؟ وما الذي جاء بالزناتي إلى حيفا من تونس الخضراء؟ أم أن حيفا هي تونس؟ وإذا كانت كذلك فهل فيها أحد من أبناء أبو زيد الهلالي والسلطان حسن؟

عندما حاولت أن أستفسر من أبي فيما بعد عن كل هذا، حاول أن يسكتني، وقال:

- لا تسألني عن هذا في حيفا. أقول لك كل شيء بعدما نعود لحكما.

محمد هو الآخر تمدد إلى جانبي قبل النوم، ثم همس في أذني

- حبيبي، لا تحكي عن اللي سمعته اليوم عند فالح الزعبي. أوع. انس كل شيء، وأبوي رايح يحكي لك كل شيء في حكما.

عرفت أن الموضوع خطير. ولم أسأل أحدا بعد ذلك. ولكن محمد روى لي القصة عندما عاد إلينا من حيفا وكانت روايته تلك جميلة ككل الأغاني التي كان يغنيها لنا.

ثم قال إن حيفا ليست تونس، والزناتية في حيفا ليسوا أبناء الزناتي خليفة. اسم على اسم..

 وزناتية حيفا أكثر شجاعة من زناتية تونس. فهم ثوار فلسطينيون يطاردون الإنكليز واليهود ويقتلونهم. سألته

- هل تعرفهم؟

- نعم أعرفهم. أعرف الكثيرين منهم وأحبهم. وهم يحبون الحوارنه كما يسموننا. ويقولون الحوارنه أبطال.

- هل قتلت يهوديا؟

فضحك. وقال:
لا. نحن نساعد الثوار فقط.

قصص ثوار فلسطين استمر أخي يرويها لنا، بعد أن عاد من حيفا نهائيا، وهي قصص كثيرة مليئة بالبطولات. قال لنا أن الثوار شددوا على اليهود والإنكليز أثناء الحرب. كانت طائرات الألمان في ذلك الوقت تدك المدينة في غارات لا تنقطع.

كنت أعرف عن الحرب الثانية. ولذلك لم يكن ما يقوله أخي محمد غريبا علي بل زادني أخبارا عنها. سمعت عن تلك الحرب لأول مرة عندما رأيت السيدة كاتبة تقرأ في جريدة أن طائرات الألمان تدك معسكر فايد في السويس. والسيدة كاتبة هي السيدة الوحيدة في القرية التي تستطيع أن تقرأ الجريدة، وكانت شامية من دمشق.

كانت، تلك المرة، تهز رأسها أسفا، أثناء القراءة، وتقول أن الإنكليز الملاعين أسقطوا ثلاث طائرات للألمان. شعرت بالحزن. ولكنها قالت بأنها تظن أن الإنكليز يكذبون، فأحسسنا جميعا بالاطمئنان.

سألتها إحداهن:

- ما هو معسكر فايد، هذا!!

فقالت السيدة كاتبه

- هذا معسكر للإنكليز المحتلين على قناة السويس. والحرب بين الإنكليز تدور في السويس وفي العلمين غربي مصر

لم أنس تلك الأسماء وفيما بعد في المدرسة كنت أعرف أكثر من أقراني عن الحرب الثانية وحيفا والسويس، والعلمين.

قال أخي محمد بأن الطائرات الألمانية تساعد ثوار فلسطين ومنهم الزناتية.

بقيت حيفا رمزا لكل ما أحبه وأعشقه. امتلأت بشوارعها، وبيوتها وبحرها، ورجالها من الزناتية والزعبية وأخي. رويت لنعيم ومسلم ومنصور وأولاد عمي فيما بعد قصصا كثيرة عن حيفا، وخاصة تلك المرأة الجميلة التي فتحت لي ولأبي باب بيتها في تلك الليلة وقادتنا إلى غرفة ننام فيها. ذكرت لهم بالتفصيل صدرها الأبيض الذي كاد يتكوم على رأسي عندما مالت علي تريد تقبيلي. كان ذراعاها عاريين ينكبان من كتفها مثل الحليب، وأبطها مكشوفا ونظيفا، كانت عارية.

وجهت كلامي كله لنعيم الذي كان يعض على يده تحرقا لمزيد، فإذا أفلتت يده من فمه، أخذته موجة هستيرية من ضحك هو أشبه بالصراخ.

عندما قفلنا راجعين أمسك بيدي.



* كاتب ودبلوماسي من الأردن، والنص مقطع من سيرته الذاتية "مدارات الذاكرة" (2002)

دلالات

المساهمون