هذا الفتى ..عُمر

هذا الفتى ..عُمر

17 فبراير 2015
عمر أميرلاي في بيته (تقدمة أخيه عصمت أميرلاي)
+ الخط -
ملاحظات عديدة يُمكن سوقها أثناء الكتابة عن سينما السوري الراحل عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، تبدأ بالمفارقة التي وسمت حياته السينمائية الممتدة بين "تجربة فيلمية عن سدّ الفرات" (1970) و"طوفان في بلاد البعث" (2003)، ولا تنتهي عند سجالية صنيعه البصري الوثائقيّ، المنطلقة من اشتغاله الفني في جعل التسجيلي وثائقياً متحرّراً من تقنية الريبورتاج والتحقيقات التلفزيونية، ومن اختراقه المبطّن أو المباشر ـ عبر كاميرا لا تلين ولا تستسلم ولا تقف عند حدّ ـ أحوال بيئات وشخصيات وحكايات متفرّقة. سجالية تُفكّك الكيان العام للمادّة المختارة، لكشف بعض ملامحها وتسليط ضوء أو أكثر عليها، ولإعادة تكوين الحكاية المنوي سردها عبر وقائع حقيقية، يُضاف إليها ذاك البُعد الفني البصريّ، المرتكز على لعبة التوليف أساساً، الكفيلة بتحقيق الصنيع السينمائيّ ضمن أصوله الفنية المتكاملة شكلاً ومضموناً.
هل بداية المسار المهنيّ لعمر أميرالاي ونهايته أمر محتوم ومقدّر أن يكون بالشكل الذي كان عليه، أم أن "عبقرية" الرؤية السينمائية والثقافية والجمالية والإنسانية للمخرج الراحل تفضي، بطريقة لا واعية ربما، إلى "إنهاء" دائرة العمل بفيلم يُعتبر أشبه بـ "ردّ" سينمائيّ على أوّل فيلم له؟.
لن تكون الإجابة سهلة. ظروفٌ كثيرة تحول دون تحقيق ما يرغب فيه السينمائي، وعمر أميرالاي لم يتردّد لحظة في تحدّي المصاعب، وإن لم يبلغ مُراده دائماً. ألم يكن يسعى إلى تحقيق مشروعيه عن السوريتين أسمهان وإغراء، من دون أن يتسنّى له ذلك؟ ألم يكن ممكناً أن تكون "نهاية" مساره السينمائيّ مختلفة، لو تسنّى له تحقيق أحد هذين المشروعين على الأقلّ، فيُصبح "الطوفان في بلاد البعث" محطة لا نهاية، تُضاف إلى نقاش مفتوح دائماً على أسئلة السينما والمجتمع والناس والأفراد والدولة والعلاقات الإنسانية؟.
الصورة وأهميتها
لن تؤدّي الأسئلة إلى إجابات واضحة، لأن رحيل عمر أميرالاي عشية انطلاقة "ثورة السوريين" (الغارقة في الدمّ والعنف والوحشية حالياً) يضع حدّاً لتساؤلات عن غدٍ غير معلوم، خصوصاً أن "الزلزال" السوري الراهن لن يمرّ عابراً في ذات السينمائيّ ووجدانه، كما في وعيه والتزاماته وسجاليته المعهودة. في الذكرى الرابعة لرحيله (5 فبراير/ شباط 2011)، تُصبح الكتابة أخفّ وطأة من إثارتها أسئلة المقبل من الأيام، كي تتوغّل قليلاً في الإرث البصريّ الوثائقيّ، الممزوج بخليط السينما والنضال الإنساني والفكر الجمالي، الموضوع أمام متذوّقي السينما ومحبّي أنماط اشتغالاته يومياً. فاتّخاذه السينما الوثائقية أداة تعبير ومواجهة وتعرية، نابعٌ من وعيه لأولوية الصورة وأهميتها في ولوج الواقع الإنساني الحيّ في سوريا، وفي بلدان عربية وغربية متفرّقة.
أما مشروعه السينمائيّ، فمبنيّ على مسألتين اثنتين: تحرير الصورة من جمودها التلفزيوني والنضالي والإيديولوجي، وتحطيم الأسوار كلّها المحيطة بالإنسان الفرد وبحكاياته الذاتية المفتوحة على العام. الكاميرا معه تدخل في أعماق هذا الفرد، وفي متاهات خبرياته الكثيرة، وتجد مُعادِلاً بصريّاً لهذا الفرد ولحكاياته الكثيرة. أميل إلى القول إن في السينمائيّ والمثقف السجاليّ رغبة دائمة في المشاكسة، أي في المواجهة والتحدّي والتنقيب الدائم عن إجابات متعلّقة بأسئلة الحياة والوجود والهوية والانتماء والمعنى. حساسية سينمائية معطوفة على حيوية ثقافية وفكرية، وعلى نِظرة ثاقبة في التحديق إلى المخفيّ أو المبطّن في الأشياء، وعلى عفوية أو ارتباك أحياناً إزاء مسألة أو شخصية، من دون أن تكون العفوية والارتباك هذان حاجزاً أمامه لبلوغ مُراده، لأنهما جزءٌ من قلق الباحث في الأسئلة تلك: علاقته السينمائية بشخصية عامّة كرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري (1944 ـ 2005) مثلاً، في "الرجل ذو النعل الذهبي" (1999)، نموذجٌ. فالمخرج لم يُخف ارتباكه الفكري والثقافي أمام السياسيّ والاقتصاديّ ورجل الأعمال، في لحظة سياسية ـ تاريخية كاشفة عمق الخلاف حوله (الحريري). قبله، يُقرّر أميرالاي إنجاز فيلم عن الباكستانية الراحلة بنازير بوتو (1953 ـ 2007): رئيسة وزراء وابنة عائلة سياسية معروفة ذات ثراء مهمّ. بدت بوتو، في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، "هدفاً" سينمائياً وثقافياً وسجالياً، قابلاً لأن يكون مدخلاً إلى فهم تفاصيل العيش في الرهان الدائم على عصبية العائلة والمال والسياسة. براعة السينمائيّ وحنكته وارتباكاته كلّها دافعٌ إلى الاحتيال على ما هو غير متوقّع، إذ لم يفلح المخرج في لقاء السياسيّة الباكستانية يومها، فأنجز "إلى السيّدة رئيسة الوزراء بنازير بوتو" (1990) راوياً فيه حكايته الشخصية مع "فشله" في لقائها، وراسماً ملامح امرأة وبلد ومجتمع من موقع سينمائيّ بحت لا يخلو من بصماته الشخصية.
سمات
الارتباك جزءٌ من صدق المرء مع ذاته. "الحيلة" وسيلة سينمائية تبدو أشبه ببصمة أساسية في اشتغالات عمر أميرالاي. حيلة مبنية على معرفة وتنقيب وتساؤلات، وعلى وعي معرفيّ قادر على التجوّل في أروقة الوعي ـ اللاوعي الخاصّة بالشخصية المختارة، وفي دهاليز المواضيع والمسائل المختارة. الصدق مرادف للشفافية، بهما أنجز "تجربة فيلمية عن سدّ الفرات"، إذ بدت التجربة هذه منبثقة من قناعته بأن أمراً مهمّاً يحصل في سوريا، فيختار الفرات حيّزاً متكاملاً؛ جغرافيا، وبيئة اجتماعية وإنسانية، وثقافة دولة تبني نفسها شيئاً فشيئاً،، إلخ. يقول إن بلداً ينهض باتجاه بناء دولة ومجتمع (...). لكن "ثقة" ما بـ "البعث" لم تدم طويلاً، لأن "البعث" نفسه يبدأ سريعاً رحلة الانحدار إلى الهاوية، خاطفاً معه بلداً ومجتمعاً وشعباً، وأحلاماً كثيرة أيضاً. بعد 33 عاماً على "تجربته الفيلمية" هذه، يُعلن أميرالاي خيبته ووجعه وانكساره، ويقول أيضاً أجمل ما يُمكن لسينمائيّ أن يقوله: هناك "طوفان" سيُغرق من يخطف بلداً ومجتمعاً وشعباً. في الـ "طوفان"، يُمعن في تفتيت الصورة القديمة بمقاربته الحالة الإنسانية التي يُدركها أبناء المنطقة تلك، على ضفاف الانهيار والفوضى والمتاهة المقيمين فيها.
الاحتيال والصدق والارتباك سمات سينمائية متكاملة والوعي المعرفي ـ الثقافي ـ الجماليّ لدى عمر أميرالاي. الدخول في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) محاولة من السينمائيّ لمقاربة وقائع يومية في ظلّ الموت والخراب والجنون، فكان "مصائب قوم" (1981) بمثابة تفعيل لقناعة سينمائية مرتبطة بأولوية الحكاية الفردية، المفتوحة على العامّ. "الحبّ الموؤود" (1983) مثلاً: بوح ذاتيّ خاص بالمخرج إزاء تحوّلات مجتمعية في مصر عبر شخصيات نسائية متناقضة (أو ربما متكاملة بعضها مع البعض ضمنياً). قبله، هناك "الحياة اليومية في قرية سورية" (1974)، و"الدجاج" (1977)، و"عن ثورة" (1978)، و"طبق السردين" (1977) وغيرها: توغّل توثيقي ـ بصريّ في وجع فردي يومي مكشوف على جرح أعمق وأكبر يطال بلداً ومجتمعاً وشعباً. هناك أيضاً اشتغالاته على شخصيات ثقافية وفنية مرتبطٌ بها إما بفعل الاهتمام الثقافي ـ الإنساني المتشابه، أو بفضل صداقة ما. هذه اشتغالات تُعتبر جزءاً من توثيق مرحلة وتأريخ حكاية فردية ـ عامة.
العالم السينمائي لعمر أميرالاي واسع وعميق. الكتابة فيه وعنه محتاجة إلى مساحة أكبر، ونقاش دائم لا يخلو من اكتشاف الجديد في نتاجاته.

المساهمون