استسهال اليأس

استسهال اليأس

26 نوفمبر 2014
ألا يبدو اليأس من الفعل وجدواه سريعا اليوم؟(العربي الجديد)
+ الخط -

أسهل ما يمكن العثور عليه هذه الأيام، بشكل خاص عند متابعة السجال الشعبي، أو العام، مما يدور في الدول العربية، هو مترادفات مختلفة لمفردة اليأس وتنويعات عليها. يحضر اليأس سريعا، ويكرس حضوره كسبب ونتيجة وتفسير، وفي الأغلب تبريرا. فالجماهير غادرت الشوارع لأنها يئست، ويأس ذاك الشاب هو ما دفعه للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو لعنة "داعش" والقتال معه، واليأس هو ما قاد الشبان إلى غياهب الغرق في مياه البحر الأبيض المتوسط بين وطن ومنفى، وهو اليأس نفسه الذي دفع الناس إلى التصويت لصالح وجوه الحقب البائدة والمال السياسي في غير انتخابات، واحتمى الناس بالطوائف بسبب اليأس أيضا، وانتحرت فلانة لأنها يئست، وصمت فلان عن الظلم لأنه يئس.

اليأس سهل، ولا يكلف شيئا، بل يكاد يكون شديد الإفراط بمجانيته، وهذا ما يجعله إشكاليا دوما، ويضاف اليوم إلى سهولته، استسهال اعتباره مفسرا كل شيء في هذه المرحلة. كيف يمكن فهم أن الشعوب وخلال ثلاث سنوات تيأس من قدرتها على الفعل والتغيير، بعد أن تمكّنت من كسر يأس عقود طويلة؟ ألا يبدو اليأس من الفعل وجدواه سريعا اليوم؟ وألا تبدو إشاعته دفعا للشعوب للعودة إلى يأسها القديم؟ ثم لماذا لا تصدر كل تلك التفسيرات والتبريرات إلا من اليائسين أنفسهم؟ أليست تبريرا للركون والاستسلام؟ كيف يمكن فهم أن أنطونيو غرامشي صاحب "تفاؤل الإرادة"، التي تعد من أشهر المقولات السياسية العملية المضادة لليأس، حتى إن كان مصدره العقل نفسه، قالها وهو ينفق عمره كاملا في سجن الفاشية وزنازينها الرطبة المظلمة! في حين ينظّر من عرفوا الميدان لبضعة شهور لليأس ويشيعونه في الميدان والشارع، وفي كل "حتة ومينا".

من المهم القول، وعلى سيرة غرامشي، أن هذا اليأس لا يحمل إلا قيمة سالبة، ليس فعلا ولا مسارا، وحتى إن غلفه كثيرون بتصورات عدمية وتنميطات وزخرفات نظرية، يظل سهلا وفي متناول الجميع. ولا تنفك الشواهد من الماضي والحاضر تثبت أن أهم التغيرات حصلت في ظروف كان فيها اليأس طافحا. ولا يمكن العثور على مقولة واعية مضادة لليأس مثل "اليأس خيانة"، تلك التي انطلقت في الميادين والشوارع كتحذير من موجة اليأس العامة التي يروّج لها وبدأب وعناية وإعلام وتعليم وماكينات ضغط وتحشيد فلولي.

إن مقدار التلاعب والادعاء في الحديث باسم الناس والشباب في هذه المرحلة غير مسبوق، وهذا التلاعب هو ما يجعل عند البعض انتحار محمد البوعزيزي فعلا ثوريا، وانتحار زينب المهدي يأسا خالصا. إن التلاعب هو ما يحول الكثير من أشكال الرفض إلى تمثيلات على اليأس. ومع كل هذا تكرّس القناعة بأن الفاعلين هم دول ومحاور وطوائف عابرة للدول وتحالفات دولية، كأن كل هؤلاء لم يكونوا موجودين حين خرجت الجماهير إلى شوارعها وفعلت بنفسها! وهنا لا بد من التشديد على أن جوهر الصراع المؤسس للحظة الثورة يدور حول اليأس، فالنظام، أي نظام، يراهن على زرع قناعة بسيطة في وعي الخاضعين له، أو المهيمن عليهم، قناعة اليأس من قدرتهم على تغيير أوضاعهم بأنفسهم. وفي اللحظة التي يفقد فيها أي نظام قدرته على رعاية تلك القناعة وتثبيتها في نفوس الخاضعين له، يكون الشرط الأساسي للثورة قد توفر.

إن كل ما يطرحه مروجو اليأس ورعاته كدلائل على شيوعه وتأثيره وفعله اليوم، يمكن أن يقرأ بطريقة معاكسة تماما. إن اللامبالاة المفرطة، التي بدا أن الشعوب تظهرها تجاه حكامها قبيل الثورات، كانت تحمل في داخلها نقيضها، أي مبالاة حادة تفجّرت كفعل ثوري حاد. وإن اليأس، بكل عموميته المتفشية اليوم، يحمل نقيضه ويدلل عليه كل حين. اليأس والعاملون على إنتاج استسهاله مقولة، يحمل ويحملون أسباب هزيمة مقولتهم في دواخلهم، بل ويقدمون دحضها جليا إذا ما تم النظر إلى دوافعهم ومبتغاهم.

راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk

المساهمون