الاحتكار يولّد صراعاً على نهش اللحم السوري

الاحتكار يولّد صراعاً على نهش اللحم السوري

29 اغسطس 2016
ارتفاع الأسعار يزيد ثروات المحتكرين(ابراهيم أبو الياس/ وكالة الأناضول)
+ الخط -
تتفاخر أوساط النخبة الاقتصادية في سورية، وغالباً عبر ناطقين "أكاديميين" يعملون في ظلّها، بأنّ السوق السورية، ورغم فداحة الحرب، لم ينقصها شيء، ولم يغب عنها أي نوع من أنواع البضائع، من الإبرة وحتى أفخم أنواع السيارات، وكل ذلك استيراداً بطبيعة الحال إذ لا أثر يذكر للإنتاج المحلي هذه الأيام.

يستحضر "الناطقون" هؤلاء، والذين لا بد أن تتعثر بكلامهم وآرائهم المنتشرة في أروقة الجامعات والمؤسسات الاقتصادية الرسمية، يستحضرون تجربة الحصار في الثمانينيات، يوم انقطعت عدة بضائع بشكل شبه تام عن السوق السورية، لكي يتفاخروا بعظيم إنجازهم! لسان حالهم يقول: "رغم الحصار الحالي وقسوته، إلّا أن حكمة القيادة لم تسمح بغياب أي نوع من البضائع كما جرى في الثمانينيات". وفائض عن السياق - وفقاً لطرحهم- الحديث عن قدرة، أو عدم قدرة، عموم السوريين على استهلاك البضائع المتوفرة هذه.
سياسات الاستيراد التي تنتهجها الحكومات السورية المتعاقبة، دائماً ما كانت مثار جدل عميق. لكن هذا الجدل بقي خجولاً ومحصوراً في الأروقة الأكاديمية، ولم يقترب من الإعلام ومن النقاش العام إلّا لماماً، وبقي كذلك حتى ما قبل أسبوعين من الآن.

بتاريخ 13 آب/أغسطس الحالي، نشرت صحيفة "صاحبة الجلالة" الإلكترونية السورية، مادة صحافية بعنوان طويل وملفت: "ستة تجار يحظون بـ 61% من المستوردات و70% من التمويل لاثنين". تعرض المادة - نقلاً عن مصدر في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية - أرقاماً غير خافية حتى على طلاب كليات الاقتصاد الذين حصّلوا الإجازة الجامعية وبدأوا بإعداد رسائل الماجستير. الفرق أنها عرضتها للعلن، عرضتها إعلامياً، وهذا ليس فارقاً هيّناً في سورية، بل ويحتاج هو نفسه إلى تفسير ربما يكون أهم من الأرقام ذاتها.
قبل الدخول في عملية التفسير، لا بد من وقفة مع بعض الأرقام التي ذكرتها المادة، ومع بعض "تدقيقاتها" والإضافات عليها، والواردة من مصادرنا الاقتصادية الخاصة.

تتحدث المادة، وبناء على تسريبات مصدرها، أنّ توزيع التجار الستة المحتكرين لـ 61% من إجمالي الاستيراد في سورية هو بين اثنين يحتكران 40% (20% لكل منهما)، وواحد بـ 10% ورابع بـ 5% وخامس وسادس بـ 3% لكل منهما. ما لم تقله المادة، وما أخبرتنا به مصادرنا، هو أنّ أحد المحتكرين الكبيرين، والذي يعرف في سورية بـ "أبو السكر"، هو طريف الأخرس قريب أسماء الأسد عقيلة الرئيس السوري، وأنّ حصته لا تقف عند 20% بل تتجاوز الـ 25% من إجمالي الاستيراد، وأنّ طريف نفسه، وإن كان غير مدرج بين الأسماء العلنية كمستورد، بل يستورد عبر أسماء أخرى، هو نفسه ليس أكثر من "واجهة بحصة جيدة" لمستورد آخر أكبر.

في معلومات "صاحبة الجلالة" أيضاً أنّ مصرف سورية المركزي يموّل 20 – 30% من إجمالي المستوردات (المقصود بالتمويل هنا، هو منح القطع الأجنبي للمستورد بسعر مخفض، وبإمكانيات سداد لاحق)، وأنّ ما يصل إلى 70% من تمويل المركزي يذهب لمصلحة المحتكرين الكبيرين. تضيف الصحيفة أنّ قيمة التمويل اليومي للاستيراد من المركزي تصل إلى حدود 10 ملايين دولار، أما مصادرنا فترى أنّ الرقم هذا هو رقم دفتري ليس إلّا، والرقم الواقعي لا يمكن أن يتجاوز 5 ملايين دولار يومياً، وهذه الحوالات، وأيضاً حسب مصادرنا، هي المصدر الأساسي والوحيد تقريباً للعملة الصعبة الداخلة إلى خزائن المركزي.

بعيداً عن الأرقام السورية وتفاصيلها، والتي من شأنها أن ترهق حتى الاختصاصيين لغياب الشفافية وتضارب الأرقام، فإنّ المهم في المسألة، هو ما أشير إليه سابقاً من أنّ ظهور الجدل حول الاستيراد مشفوعاً بالأرقام إلى العلن، إنما ينم عن أشياء عميقة وكبيرة تحتاج إلى تفسير.

في هذا السياق هنالك ثلاثة عوامل متكاملة ومتضافرة هي السبب وراء دفع القضية نحو الإعلام، علماً أن هذه العوامل متفاوتة من حيث تأثيرها، ولذا سنرتبها من الأقل أهمية وصولاً إلى الأكثر أساسية:
أولاً، إنّ وجود أديب ميّالة على رأس وزارة الاقتصاد ضمن الحكومة المتشكلة حديثاً، من شأنه أن يشجع تظهير الانتقادات القديمة-الجديدة لسياسة الوزارة، ذلك أنّ ميّالة كان قد تحول في موقعه السابق كحاكم لمصرف سورية المركزي إلى "دريئة شعبية" يطلق الجميع نحوها في مسألة سعر الصرف، بينما يتغطى خلفها المستفيدون الفعليون من هذه المسألة. أي أنّ السلطة نفسها قد جعلت من ميالة كبش فداء، وهذا بالضبط ما تستغله أطراف متعددة لاستهداف سياسات تلك السلطة.

ثانياً، يتضافر العامل الأول مع استمرار تهاوي الوضع المعيشي في سورية المترافق مع الموجة الجديدة من ارتفاع سعر الصرف الذي وصل حدود 550 ليرة سورية للدولار الواحد، وتهاوي الوضع المعيشي هذا يعني استهلاكاً عاماً أقل، ويعني تالياً أنّ حجم السوق التي يتم التنافس عليها تتقلص سريعاً، والرابح هو فقط من يمتلك احتكار استيراد أكثر البضائع أساسية لعيش المواطن السوري، السكر مثلاً.

ثالثاً، إن نشر المادة الصحافية المشار إليها يعكس ارتفاع مستوى الاشتباك بين غرف التجارة والصناعة من جهة وبين المجموعة المتنفذة الممسكة بزمام كل شيء في البلد، وهو الاشتباك الذي ظهر منذ أشهر فيما عرف بـ "مظاهرة الحريقة" والذي يستمر في التصاعد حتى اللحظة مدفوعاً بسياسات السلطة في مسألتين أساسيتين: سعر الصرف وإجازات الاستيراد.
من نافل القول إن غالبية السوريين غير معنيين بهذا الصراع، كل ما في المسألة أن المنتصر بين المتصارعين، هو الذي سيتفرد بالتهام السوريين!

المساهمون