حصار عرسال: الدمار الاقتصادي يخنق السكان بالبطالة

حصار عرسال: الدمار الاقتصادي يخنق السكان بالبطالة

29 يوليو 2015
طفل في مخيم للاجئين في عرسال (رتيب الصفدي/فرانس برس)
+ الخط -
يقول أهالي "عرسال" إن معنى اسم بلدتهم هو "عرزال" بالآرامية، والعرزال في قاموس المعاني يعني "موضعٌ يتّخذه الناطور فوق أطرافِ النخل والشجر، يحتمي فيه من الأسد". إلا أن الأسد وصل بطائراته الحربية إلى عرزال الهاربين منه، لتصبح عرسال اليوم بلدة لبنانية منكوبة بالفقر والتدهور الاقتصادي والاجتماعي. 

وترتفع عرسال عن سطح البحر حوالي 1500 متر، وتقع عند الحدود اللبنانية -السورية على سلسلة جبال لبنان الشرقية. ونتيجة وجودها على الحدود، اشتهرت هذه المنطقة في الماضي بتهريب البضائع ما بين لبنان وسورية عبر الجرود، إضافة إلى ارتكاز اقتصاد العراسلة على صناعة السجاد، وكذا الزراعة والتجارة، وكذلك انتشار الكسارات التي تحوّل الصخر إلى رمل صناعي. ونتيجة بعدها عن بيروت، تم التعامل مع عرسال على أنها من مناطق الأطراف المهمشة، فلم تصلها التنمية ولا المشاريع الحكومية ولا الخدمات العامة، لتصبح من أكثر المناطق اللبنانية فقراً، لا بل سجلت البطالة بين شباب البلدة نسبة 30% قبل انطلاقة الثورة في سورية، وغالبية هؤلاء كانوا يعملون في التهريب.

مع انطلاقة الثورة في العام 2011، دعم عدد كبير من أهالي عرسال الثوار السوريين، وتحولت البلدة إلى ملجأ لكل هارب من قصف النظام وبطشه، ليصل العدد إلى 120 ألف لاجئ (وفق تقديرات غير رسمية). إلا أن طائرات الأسد ومدافعه لاحقت أبناء شعبه إلى الأراضي اللبنانية، فإذا بالقصف يطاول اللاجئين والعراسلة في الوقت عينه.

ومع استقرار الآلاف من اللاجئين في البلدة، ارتفعت نسبة الفقر والبطالة، لتتحول المشكلة إلى أزمة مع محاصرة البلدة من كل الجهات. حيث تتمركز حواجز الجيش اللبناني على مدخل البلدة وداخلها، إضافة إلى دخول حزب الله والمسلحين السوريين إلى جرود عرسال من جهة أخرى، وتحولت عملية الانتقال من داخل البلدة إلى خارجها، والعكس مهمة تحتاج إلى إجراءات تفتيش مستمرة.

"العربي الجديد" دخلت البلدة، بعدما اجتازت الحواجز الأمنية، للاستقصاء عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها عرسال المحاصرة، وظروف سكانها، ولمعرفة كيف يستمرون في الحياة في ظل الخوف والفقر المتمادي...

أين المفر؟
"أهالي عرسال لم يعرفوا البطالة من قبل بهذه النسبة المرتفعة"، و"كان من المستحيل رؤية شاب من عرسال بلا عمل بالمرة". عبارات يردّدها أغلبية أهالي عرسال بحسرة لدى سؤالهم عن أعمالهم.
يشرح مسعود عز الدين، كيف كان يدق الأبواب بحثاً عن عمّال لمعمله، أمّا اليوم فالأمر بالعكس، فـ"العمال هم من يدقون منزلي. أمس أتى رجل مع زوجته وابنته وصار يبكي لأن العيد مرّ، وحتى الآن لم يستطع إيجاد عمل له". يؤكد مسعود أن هذه الحالة جديدة ولكنها صارت تنطبق على جميع العراسلة الذين توقفت أعمالهم من دون وجود بديل.

اقرأ أيضاً: إفقار ممنهج لمناطق لبنانية وتأهيلها للعسكرة

تعتمد عرسال على ثلاثة مصادر إنتاج رئيسة: المقالع والكسارات والزراعة والموظفين في القطاعين العام والخاص. القطاع الأخير، وبالرغم من أن العاملين فيه أصحاب دخل ثابت، لا يمكن تصنيفه ضمن القطاعات التي تعود بمردود كامل على المنطقة، بحسب خالد بريدي، أحد سكان عرسال. فهذا القطاع ينطوي بطبيعته على خلل، نتيجة عدم قيام الدولة بواجباتها تجاه الموظفين لناحية "دفع أجور الموظفين والحد الأدنى للأجور". أما القطاعان الآخران اللذان كانا يؤمنان للمنطقة مردوداً اقتصادياً عالياً نسبياً، فقد توقف عملهما بنسبة 70% على الأقل. فالمقالع التي ما زالت تعمل، يقع أغلبها داخل عرسال البلدة. ومقلع خالد هو أحدها، ولكن برغم استمرار عمله في المقلع، يؤكد خالد أن الإنتاجية محدودة.

المقالع: توقف قسري
لا إحصاءات ثابتة حول عدد المقالع في عرسال لكن الأهالي يقدرونها بحوالي 400 مقلع. كل مقلع يضم بالحد الأدنى حوالي 7 عمال، أي هناك 7 عائلات على الأقل تعتاش من المقلع الواحد. الأمر نفسه ينعكس على معامل الحجر-الصخر، إذ إن عدد المناشر يفوق الـ 350 معملاً، ويضم نسبة أعلى من العمال، الذين يتراوح عددهم ما بين 12 و15 عاملاً في كل معمل.

نتيجة للأزمة الحاصلة والحالة الأمنية التي ترزح تحتها عرسال، فإن المقالع التي تعمل اليوم هي بحدود 20 مقلعاً من أصل 400. ما يعني أن هناك 2660 عاملاً قد توقف عملهم. أمّا بالنسبة للمناشر، فلا تتجاوز التي تعمل الـ 40 منشراً، ما يعني أن 3729 عاملاً بالحد الأدنى أصبحوا في عداد العاطلين من العمل.

اقرأ أيضاً: مخصصات "زعماء" لبنان توازي أجر 93 ألف لبناني

"الضرر مباشر. انخفض عملي بنسبة 70%"، يقول عز الدين، الذي يملك مقلعين ومنشراً. المقلع الأول القريب من الحدود السورية سيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أما المقلع الثاني فالجيش اتخذ منه مركزاً. المقلعان توقف عملهما ولم يبق لعز الدين سوى المنشر الذي أيضاً اتخذه الجيش مركزاً، لكن دون أن يتوقف عمله فيه كما حصل بالمقلع. فبحسب ما يقول عز الدين فإنه توصل إلى صيغة مع الجيش، بحيث يمكنه العمل أثناء وجوده. إلا أن العمل فيه لم يعد يتجاوز الـ 6 ساعات، "حسب الوضع الأمني".

تقنين في المازوت والخبز
عبد الله (اسم مستعار) أصبح عاطلاً من العمل منذ 5 أشهر. وهو يؤكد أنه منذ أحداث القلمون ودخول حزب الله إلى الجرود لم يعد قادراً على الصعود إلى عمله. قبل هذه الأحداث وبالرغم من الخطر جراء القصف السوري فإن العراسلة استمروا بالصعود إلى الجرود. "العالم بدها تشتغل"، يقول عبد الله. ولكن بعد المعركة من يصعد إلى الجرد يصبح مشبوهاً من كل الأطراف. العمل، وفق عبد الله، بدأ ينخفض تدريجاً إلى أن توقف بالكامل.

المشكلة بدأت عند انتشار الحواجز، وبدأ العمال بقضاء ساعات طويلة على الحواجز قبل أن يسمح لهم الجيش بالمرور. "كنت أخرج من المنزل عند الساعة السادسة والنصف صباحاً، وأصل إلى الجرود في الساعة الثانية عشرة ظهراً، بسبب الإجراءات الأمنية والتفتيش الدقيق للماكينات"، يوضح عبد الله، وبسبب الحواجز انخفضت الأعمال إلى 30%. هذا عدا عن كمية المازوت التي حددت والتي لا يمكن تجاوزها. فبالرغم من أن المقالع تستهلك 400 ليتر مازوت في النهار الواحد، فقد أجبروا على استخدام 100 ليتر مازوت فحسب. ومن يتجاوز هذه الكمية عليه أن يعود أدراجه. الأمر نفسه بالنسبة للخبز. فلكل 10 عمال يسمح بربطتي خبز لا غير.

"في بعض الأحيان من لديه 20 ليتر مازوت زيادة أو ربطة خبز زائدة، يقولون له أن "يردهم إلى عرسال ويعود، وإذا اعترض أحدهم سيقابل بعبارات زجر"، يقول عبد الله.

الزراعة بلا سواعد
بين مراكز الجيش والحدود السورية هناك أكثر من 40 كيلومتراً من الأراضي المزروعة والبساتين، التي لا يستطيع المزارعون الوصول إليها. "لا الجيش يسمح لنا بالصعود ولا المسلحون"، يقول إسماعيل فليطة، الذي يعتمد في دخله على الزراعة بشكل أساسي، ولديه بساتين من الكرز والتفاح.

اقرأ أيضاً: لبنان الفوضى... أرض خصبة لتجارة السلاح

يسأل فليطة عن أملاكه وأملاك أهالي عرسال التي تقع في الجرود: "هل باعتهم الدولة للمسلحين؟ على الدولة أن تحمي نفسها على حدود أراضيها وليس وسط القرى، كيف نعيش بدون أرزاقنا"؟ سابقاً كان إسماعيل يعيش من مردود أشجاره المثمرة، الذي راوح بين 20 و30 مليون ليرة في السنة (بين 13.2 و20 ألف دولار). أمّا اليوم فهو يستدين من الدكاكين، كما يساعده أولاده في المصاريف. "أنا عندي أولاد يعملون ويساعدونني، لكن هناك أناس لا أولاد لهم ليساعدوهم، فكيف يستمرون"؟


أما هادي، فمنذ سنتين لم يقم بقطف محصوله من الكرز. مردود الكرز كان 6 ملايين ليرة سنوياً (حوالي 4 آلاف دولار)، أما الآن فـ"لوجه الله"، يقول هادي، ويؤكد أنه لا يعرف أية أخبار عن بستانه "لم يعد لنا شيء، ولا أعرف ما إذا كانت أشجار الكرز لا تزال موجودة أو جزت وتحولت إلى حطب في الشتاء!".

خطر على القطاع
تحتوي جرود عرسال على حوالي مليونين ونصف المليون شجرة مثمرة، بحسب محمود فليطة، أحد أهالي عرسال، الذي يقول إنه وفقاً لإحصاءات جرت منذ 5 سنوات، فإن محصول هذه الأشجار يتراوح بين 6 و7 آلاف طن. ويقدّر فليطة مردودها بحوالي الـ 10 مليارات ليرة لبنانية (حوالي 6.6 ملايين دولار). لدى فليطة بستان في الجرود، يحتوي على مشمش وكرز كما لديه أيضاً خيم زراعيّة، رزقه هذا كان يدر عليه بمعدل وسطي بين الـ 4 و5 ملايين سنوياً، ولكن منذ ثلاث سنوات لم يحصل على شيء. كما أن منزله الذي يقع بالقرب من البستان قد احتل أيضاً من قبل "جبهة النصرة".

المزارعون ليسوا قلقين على مصير محاصيلهم فحسب، وإنما يستشعرون خطراً كبيراً محدقاً بهذا القطاع.
فنتيجة لاستحالة اهتمام المزارعين ببساتينهم خلال هذه السنوات الأربع، فإن هذه الأراضي لم تفلح ولم تُشجّر ولم تقص ولم تعالج بالمبيدات والأدوية. ما يعني أن هذا القطاع يسير نحو دمار كامل، وعلى الأرجح سيكون مصير الأشجار أن تتحول إلى حطب، وهذا هو الهاجس الأكبر للمزارعين.

اقرأ أيضاً: 75 مليار دولار خسائر لبنان من الطائفية

المحطات والمتاجر
كانت محطات البنزين تستفيد بشكل مباشر من عمل المقالع والمناشر. إذ راوحت المبيعات بين 2000 و3500 دولار في اليوم الواحد، أما اليوم فلا يتخطى مردودها الـ 250 دولاراً. كما أن كل محطة كانت توظف أربعة عمال، أما اليوم فإما موظف واحد، أو يتولى صاحب المحطة بمفرده إدارة محطته.

"كله خسارة بخسارة"، يقول أحد أصحاب المحلات في عرسال، ثم يضيف "كل الأشغال تأثرت، الناس لم يعد لديها قدرة على شراء شيء من المحلات".
من جهة أخرى، تأثرت مصالح الذين كانوا يأتون ببضاعتهم من سورية. أبو إسماعيل واحد منهم، وهو يملك متجراً لبيع الثياب، "كنت أشتري البضاعة وتتولى شركة الشحن جلبها لي عبر الحدود، ولكن بسبب الأحداث، والمشاكل التي تواجه الداخلين إلى عرسال توقف استيرادي للبضائع. كانت أسعار البضاعة تباع بثمن رخيص بالنسبة للسوق في لبنان، ولكن اليوم ولأني أشتري من السوق اللبنانية، اضطررت إلى زيادة الأسعار. في السابق كنت أبيع بـ 2000 دولار أسبوعياً، أما في الوقت الحالي فيمضي شهران وبالكاد أبيع بـ 1500 دولار".

بين سلاح وسلاح
أما صاحب إحدى التعاونيات، والذي كان يؤمن بضاعته عبر التهريب، فيؤكد أن العمل انخفض بنسبة 70%. "لا يوجد طريق، فأما حزب الله أو داعش بالجرد، لا يمكننا العبور". وبعد أن كان الزبائن يأتون من مختلف المناطق إلى التعاونية، بسبب أسعارها المتدنية جداً مقارنة بالمناطق الأخرى، فقد أصبح زبونها الوحيد اليوم هو ابن عرسال.
ويضيف: "كنا ننزل من 15 إلى 20 ربطة يومياً، ويتم بيعها. أما اليوم فصرنا ننزل أقل من 10 ربطات. السوق ماتت تماماً".

دلالات

المساهمون