شلالات شفرة الحياة

شلالات شفرة الحياة

05 يوليو 2016
عمل لـ سينياك(Getty)
+ الخط -
بعد أربع سنين من الانتظار، ها هما برجا "حدائق أغورا" ينوّران قلب عاصمة تايوان: توأمان فنيّان فريدان، يأسران النظر. لهما شكل هندسي لولبي مزدوج، كحلزونين متعانقين على شكل حرف X. في وسط كل دور من الأدوار: حديقة صغيرة معلقة، تحت سماء مفتوحة. وقد استلهم "فانسان كاليبو"، Vincent Callebaut مصمم البرجين، شكلهما من قدس أقداس بيولوجيا الكائن الحي: جزيء الـ D.N.A (الحمض الريبي النووي)، القابع وسط الخلايا الحيّة. هكذا، يبدو برجا "حدائق أغورا" أشبه بشلالات من حدائق تسيل في شكلٍ هندسي مستوحى تمامًا من D.N.A الكائن الحي.
أثار منظرهما فيّ شلالات من الشجون والذكريات. ها أنا في 1962 والعالِمان "جيمس واستن" و"فرانسيس كريك" يستلمان جائزة نوبل لاكتشافهما في 1953 جزيء D.N.A، إثر مقال علمي شهير نشراه في مجلة "نيتشر" الرفيعة جدًا. اعتبر المقال حال نشره منعطفًا في تاريخ الاكتشافات العلميّة، لأن شفرة الحياة تختبئ في هذا الجزيء. وقد استحضر الفنان سلفادور دالي، وهو يهدي العالِمين في 1963 لوحته الشهيرة، ذات الاسم الغريب: Galacidalacidesoxyribonucleicacid
الذي دمج فيه اسم زوجته غالا، باسمه، وبالاسم الكيماوي الخشن لجزيء D.N.A: "ديزوكسيريبونوكييك"، جوهر فكرة اللوحة. غيرت سلسلة نتائج هذا الاكتشاف الجوهري مجرى حياة الإنسان، وأثّرت في كل المجالات العلمية والاجتماعية والأدبية والموسيقية والتشكيلية.
فما أبعدنا عن "ثقافة الدنا" D.N.A، نحن العرب الذين لم يقتنع بعضنا بكروية الأرض بعد. محاضرات الفقهاء الذين ينكرون ذلك تملأ الإنترنت. لا يزعجني إنكارهم، في الحقيقة، عندما يستعملون منطق الجدل بالحجة، قائلين: "لو كانت كروية، لما استطاع الإنسان المشي فيها، ولَتدحرج". إذ لا يمكن لطفل طبيعي في السابعة من العمر ألا يخطر بباله هذا الاعتراض اللطيف البريء. بل من حقّهم إذا أرادوا، اعتبار الصور الآتية من الفضاء مزوّرة، رغم أنهم لا يستطيعون إنكار أن الإنسان اخترع الطائرة، وصعد إلى الفضاء.
ما يزعجني فعلاً: أولئك الذين يسخرون ويقهقهون، على نحوٍ ديني أعمى، من طرح الرافضين لكروية الأرض، من دون المقدرة على المحاججة المعارِضة: "النملة تسير فوق التفاحة من دون أن تتدحرج، لِصغر جسمها بالمقارنة بحجم التفاحة. فما بالكم بحجم الإنسان بالنسبة إلى كوكب الأرض؟"؛ هكذا ترد الأم أو الأب المحترمان النبيهان، لابنهما في السابعة، عند استغرابه الحميد من فكرة كروية الأرض، ورفضه لقبولها في البدء.
لكننا كعرب، في عصر "التبجحات العرقية" والصراعات والحروب الطائفية اليوم، أكثر حاجة من أي وقت مضى لنشر ثقافة "الدنا" D.N.A، لأنها الأقدر على ضرب العنصرية وهي تبرهن للإنسان، بما لا يدع مجالًا للشك، أن مهد البشرية، أفريقيا السوداء، وتردع الافتراءات الإثنية التي تتسلّق على شجرة الأنساب الإنسانية، من دون برهان، للتعلّق بهذا الفرع الجنكيزخاني أو الهاشمي، لأغراض استغلالية مقيتة.

حاجتنا ماسة إلى ذلك، حتى وإن لم نخرج تمامًا بعد، كعرب، من إشكالية عدم اقتناع بعضنا بكروية الأرض ودورانها حول الشمس، بفعل الأميّة الثقافية والتضليل الظلامي الفعّالين.
لأذكِّر أوّلاً بمعلومات أوليّة درسناها في الصغر: يحتوي كل جسدٍ إنساني على حوالي 60000 مليار خلية. في مركز كلِّ واحدةٍ منها نواة. في وسط كل نواة، لمن رآها بالميكروسكوب: ثلاثة وعشرون زوجًا من "شتلات" تسمّى كروموزومات. في كل واحدٍ منها يقبع جزيء "الدنا" D.N.A العجيب، هذا "اللوح المحفوظ" الذي اكتشفه "واستن" و"كريك".

يبدو هذا الجزيء فعلاً كسلّم، ضلعاه لولبيان ممطوطان، يرتبطان بجسور تبدو كما لو كانت درجات للسلّم. كل درجة تتشكّل من اثنتين من 4 "مركبات قاعدية كيماوية"، يرمز لها بـ A,C,G,T. تمثِّل هذه الأحرف الأربعة أبجدية لغة ميكانيكا بيولوجيا الكائن الحي وتاريخه، مثلما يمثِّل الصفر والواحد أبجدية لغة الكمبيوتر.
لم تنقلب الدنيا رأساً على عقب، بعد اكتشاف "الدنا" D.N.A، إلا في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، عندما تطوّرت علوم الكمبيوتر ومقدراتها الحسابية، وصار بالإمكان، عند أخذ شذرة من لعاب أو دم أو عظم أو بقية جسد الإنسان، قراءة كل درجات سلّم "الدنا" D.N.A، كما لو كانت كلمة واحدة - أبجديتها الأحرف الأربعة أعلاه -، شاسعة الطول في الحقيقة: مئات الغيغابايتات!
كتابٌ لا نهائي تقريباً، يسمّى "الجينوم"، يحوي كل أسرار بيولوجيا المرء، كلون عينيه وطول أصابعه، كل خلله وأمراضه، كل ماضيه وتراثه الوراثي، وكل تاريخ بيولوجيا الإنسانية عموماً أيضاً.
هاكم مثلاً: قطرة من بين ملايين صفحات محيط جينوم ذبابة: CAAGCTGCATGT...
بعض قطرات هذا الكتاب العملاق صفحات تسمى "جينات" تحدِّد صفات صاحبها البيولوجية وتسرد تعليمات لتشكيل ونمو بروتينات جسده؛ بعضها شفرات ورثها من الأب من دون تغيير؛ وأخرى من الأم من دون تغيير؛ وبعضها صفحات خاصّة جدّاً تشكّل بصمة صاحبها الفريدة، وبطاقته الشخصية وحده، من دون شريك له.
لذلك، فقراءة هذا الكتاب تكشف كل أسرار الإنسان. مثال: عندما أصرّت "أورور دروسار" أنها ابنة الفنان الراحل "إيف مونتان" - لأسباب حقوق في الميراث ربما -، أمر القضاء باستخراج رفاته، وفحص "الدنا" D.N.A لإحدى خلاياه، ليتبيّن أنها ليست ابنته. انتهى الأمر لأن قرار "الدنا" D.N.A رادع، لا يقف أمام أحكامه أحد.
كل الأسرار تتعرّى عندما يبدأ قراءة هذا الكتاب: كان الرئيس الأميركي "توماس جيفرسون" أباً لآخر أبناء عبدته السوداء سالي هيمنجس!
المفاجآت الناجمة عن قراءة هذا الكتاب تتجاوز أحيانًا كلّ خيال: جيري وينكلر، مهمّش هولندي شحّات، كان الابن الخفي للملياردير ألفريد وينكلر. وأم هذا لم تكن ابنة شرعية لمن ظنّ الناس أنه أبوها.
لذلك، هناك جدل حول القيمة الأخلاقية للسماح بفحص أي إنسان لـ "دَناه" D.N.A. مسموحٌ ذلك في بعض الدول الأنجلوسكسونية كالولايات المتحدة، وممنوع في فرنسا مثلاً إلا لأغراض صحيّة أو قانونية، وإن يحق للمرء فيها، عبر الإنترنت فقط، اللجوء لفحص "دناه" D.N.A في أميركا أو سويسرا بكلفة أقل من مائتي دولار.
الموافقون على السماح للفحص، يرونه ضروريًا لئلا يعيش المرء على أكذوبة ووهم، فيما يرى الرافضون أن الهويّة ليست مجرّد قضية بيولوجيا، ولكنها انتماء عاطفي ثقافي، يمكن للحقيقة البيولوجية الرعناء أن تدمّره وتلغيه. جدلٌ لا يتوقّف.
لكن الجميع متفق على أن هذا الفحص غيّر مجرى القضاء والعدالة، بفضل ما يسمّى اليوم "البوليس العلمي" الذي تسمح مختبراته بكشف مرتكبي الجرائم بدقّة لا متناهية، حتّى وإن كانت جرائم عتيقة عفى عليها الزمن.
يكفي أن يعثر القضاء في موقع الجريمة على أثر قطرة منوية، أو قطرة دم، أو بصيص لعاب على أعقاب سجائر، أو نتفة من لحم أو عظم أو ضرس، ليمتلك صورة دقيقة لهوية مرتكب الجريمة، يقارنها بقاعدة البيانات التي تحتوي اليوم، في الدول المتقدّمة، على مئات الآلاف من "دنوات" D.N.A المواطنين، ولا تتوقف عن التزايد بفضل كل الحالات الجديدة التي تصل القضاء.
سوق قاعدة بيانات "الدنا" D.N.A صار من أهم الأسواق الاقتصادية الذي تتضارب على امتلاكه واحتكاره الشركات الاقتصادية الكبرى، لا سيما غافا؛ غوغل، آبل، فيسبوك، آمازون.
عدد الملفات التي أقفِلت بعد كشف القناع عن المجرمين، بفضل إمكانية هذا الفحص منذ نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، حتى وإن كان عمر جرائمهم عدّة عقود، لا يعد ولا يحصى.
سرد كل هذ الملفات يحتاج إلى مجلدات مدهشة حقًا: كثير ممن قاموا باغتصابات جنسية أو قتل، ثم اختفوا، أو بدأوا حياة جديدة، وصلتهم يد العدالة بعد عدة عقود من جرائمهم، وهاهم قابعون اليوم في السجون.
لكن الأكثر عمقًا في تقديري، هو دور "الدنا" D.N.A في تعرية شجرة الأنساب للإنسان، وفضح أكذوبات تاريخ السلالات العنصرية، أو التلفيقية لأغراض استغلالية.

دلالات

المساهمون