عرفات، قلبه مرسوم على وجهه

عرفات، قلبه مرسوم على وجهه

16 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الروسي فاسيلي كانديسكي (Getty)
+ الخط -
هذا الرجل قلبه مرتسمٌ على وجهه، فلا صورة له إلا وهو ملء التعبير الحيّ عما يجول في خاطره من فرح المقاوم أو حزنه، أو الاثنين معًا. بيد أن صاحب تلك "العاطفية المرئية" الزائدة، استطاع ببراعة واقتدار تحويلها إلى نقطة قوّة وضعف في آن معًا. فمن غير ياسر عرفات يمتلك ذاك الإشعاع القوي والحضور الآسر، الذي يفيض من وراء الشاشة، ليصل إلى المشاهد، فيفتن بأمر يبدو اليوم "غريبًا" ؛ الحاكم العربي الذي يحبّ شعبه. 

أمورٌ كثيرة تفرّق ياسر عرفات عن الحكام العرب كلّهم، ليس أقلّها تلك الكاريزما وذاك الالتزام الحقيقي بالشعب، فضلًا عن ملكة وموهبة خاصتين في تسخير الكاميرا وتوجيهها، لا الخضوع لسلطان الإعلام من ورائها. مبكّرًا انتبه عرفات إلى دور الكاميرا القوي في تقديم الصورة، ولعلّه اهتدى إلى خلطة سحرية ما حيال الكاميرا، حدّ أنه لم يخشَ إسرافها، تشهد على ذلك صوره الكثيرة، وهو يقبّل الناس، من الحكام "المتأنقين" أصحاب ربطات العنق، سواءٌ أكانوا من الإخوة أم الأعداء أم الاثنين معًا، إلى المدججين بأوسمة نصر عربي "خرافي" ومتخيّل، وصولًا إلى القادة والرموز في العمل الوطني الفلسطيني والعربي، وبالطبع الناس العاديين في الشارع والمخيم والبيت والساحة. قبلات عرفات وحدها، تستحق تأملًا، نظرًا إلى مراتبها ورتباتها الكثيرة والمتنوعة، وهي من خلال مروحتها الكبيرة، تدلّ على صلابة عرفات في استعمال الكاميرا.

اقرأ أيضًا: نور القدس

يصعب الاختيار من بين صوره الكثيرة لتمثيل كيف كان عرفات يسوس الكاميرا، إلا أن لإحدى الصور، حظًا أوفر في جلاء جوهر عرفات ومعدنه : صورته حاملًا شمعة، إذ إن الحقد في قلب آرييل شارون، والظن أن لا قلب له أصلاً، طيّر ما تبقّى من صواب لديه، فلم يتوانَ عن قطع الكهرباء عن المقاطعة، مقر إقامة عرفات في رام الله.

عرفات حاملًا شمعة، والكاميرا تنقل الصورة إلى العالم بأسره، كذا لا حاجة لأي لفظ ولا أي تعليق ولا أية بلاغة. فالوضوح ساطع وأبيض، ويقول من الضحية ومن الجلاد.
ثمة صورة أخرى لعرفات في المقاطعة، بثياب خفيفة أقرب إلى ثياب النوم وعلى رأسه قبعة، ممتلئًا بالمرض "الغامض". كانت الصورة التي تخبّر أنه ذاهب صوب علاج "تأخّر". لم تفارق الابتسامة شفتيه، لئلا يعطي من دسّ السمّ له، فرصة للاحتفاء بالجريمة. ستعود الصورة إلى الأذهان، كلّما سرت شائعات "حقيقية" تقول إنّه مات مقتولًا مسمومًا. لعلّ عرفات ما كان سيخرج من المقاطعة المحاصرة إلا بهذه الصورة، كي تبقى دليلًا.

اقرأ أيضًا: الكرم في الكتابة

واليوم، وإذ أصدرت السلطة الفلسطينية تصريحًا بالتوصل إلى حقيقة الشائعة بأنه مات مسمومًا، وأننا بانتظار كشف "سرّ صغير"، قبل أن تكتمل "الصورة"، يبدو وجيهًا طرح السؤال: وما معنى أن تُكشف "الحقيقية" رسميًا بعد أحد عشر عامًا؟. أيعني ذلك معاقبة الجاني؟ أم أن الأمر لن يعدو أن يكون خبرًا "إعلاميًا"، يدور في الوسائل إيّاها، وتعقد من أجله برامج حوارية، ويردّده الناس في مجالسهم؟ لا حاجة للسؤال أصلًا، فالإجابة عنه واضحة.

ثمة أمور لا معنى لها إلا عند وقتها، وحين قطافها. لم تعد الحقيقة الآن تجدي شيئًا، فقد حصل الإسرائيليون على ما أرادوا، وانتهى الأمر.
ربّما كان عرفات مدركًا سريان السمّ في جسده، ولعلّ نظرته التقتْ بنظرة الذي دسّه له في طعامه المتقشف، لكن الأكيد أنه كان عارفاً من عدوه. ولعلّ هذا ما حدا به إلى الخروج بتلك الصورة إلى شعبه؛ ضعيف الجسد لكن متألق الابتسامة كعادته.

اقرأ أيضًا: أبناء الجدار

ها هنا حاكم عربي لم يخشَ على صورة "صنعتها" له الكاميرا، فالأمور مع عرفات مقلوبة، لم تصنع الكاميرا شيئًا، وهو لم يخشَ شيئًا. انحصر دور الكاميرا في نقل عرفات كما هو، أو كما يريد. وقد أراد عرفات الواثق من شرعيته ومن حبّنا له، إيصال صورته تلك؛ مقابل الجسد الهشّ، ثمة صلابة حقيقية، لا يحوزها إلا الرجل الوطني. فمن يجرؤ أن يكون أمام الكاميرا مثله؟

تشير تلك صورة عرفات مسمومًا إلى جريمة إسرائيل وأدواتها طبعًا. إلا أنه يخطر في البال، وفي خضم كل تلك الملابسات والمماطلات، وتلك التحقيقات المفتوحة قسرًا وبعد لأي، وتلك المقفلة عنوة من دون لأي، فضلًا عن الأدلة المبتسرة وتلك المدسوسة، وغيرها من الأحابيل، طرح سؤال آخر: وماذا لو أن الفلسطينيين قاموا بدسّ السمّ لـ "قائد" إسرائيلي؟ لا حاجة للسؤال أصلًا، فالإجابة عنه واضحة.

دلالات

المساهمون