أبناء الجدار

أبناء الجدار

19 أكتوبر 2015
علاء الدين والبساط السحري، مخطوط عثماني، القرن 19 (Getty)
+ الخط -
وفقًا لتقارير صحافية عديدة، فإن الشباب الفلسطينيين الذين يقومون بـ"الانتفاضة الثالثة"، هم في جلّهم في العشرينييات من عمرهم. وقد لاحظ أحد الباحثين الفرنسيين أن من الممكن عدّهم أبناء الجدار، جدار التمييز العنصري، الذي يخنق ما تبقّى ممّا توافق أصحاب أوسلو على أنه "وطن" للفلسطينيين. 

جميع هؤلاء الشبّان ولدوا بعد عام اتفاق أوسلو 1993، وكانوا أطفالًا حين تعلّموا وحدهم، وأدركوا أن حتى الكرة التي يلعبون بها، لا يحقّ لها تجاوز الجدار الإسمنتي الهائل الذي يزنّر المكان الضيق، ويعطيه "علامة" لا يخطئ دلالتها أحد: المنع والقهر والحرمان.

على الجدار أيضًا، رسوم غرافيتي، تخبّر بدورها رواية مضادّة للجدار نفسه، من بينها غير ما غرافيتي شهيرة للفنان بانكسي؛ واحدة لفتاة صغيرة تمسك بالونًا يطيّرها صوب ما وراء الجدار، وواحدة أخرى كُتب عليها باللغة الإنكليزية Whatever "مهما يكن"، تخبّر عن المقاومة وعمّا خارج الجدار، إذ إنها مكتوبة بطريقة معكوسة كما لو أنها واقعة على الجانب الخارجي للجدار. وبعيدًا من الاسم الشهير ذي الرنين العالمي، ثمة رسوم غرافيتي أخرى لفنانين فلسطينيين، لا تنفصل عن إخبار رواية مضادّة للجدار، رواية "تكسر" الجدار للوهلة الأولى مجازًا، عبر إبطال مفعوله. أمّا في الوهلة الثانية، أي، بعد التمعّن في ما عليه من غرافيتي، فإنها تقترح البديل: المقاومة. الجدار يخبّر السجن، والرسم عليه يخبّر الحرية. القصّة كلّها هي في الإخبار.

اقرأ أيضًا: مهما يكن

ولئن كان ممكنًا لجيل النكبة 1948 ومن بعده جيل النكسة 1967، إخبار رواية متماسكة عن غازٍ وعدو ومحتل، فإن الأجيال التي تلت، تمكنت أيضًا من إخبار روايتها عن الفدائيين والكفاح المسلّح، وانتزاع حقّ الاعتراف بالوجود وتقرير المصير، والانتقال من التغييب إلى الحضور. أمّا جيل أوسلو، أو جيل الجدار، فلا يملكان على ما يبدو رواية أو قصّة شخصية تستطيع الاندماج مع الرواية الرسمية المعلنة في اتفاق أوسلو.

وتبدو اليوم صورة ياسر عرفات مصافحًا إسحاق رابين في البيت الأبيض، باهتة، تفتقر إلى المعنى "الرسمي" الذي أدّى إلى التقاطها؛ اتفاق السلام. فأين السلام؟ هو "آتٍ" من بعد مفاوضات لمّا تنتهِ، وشبحيٍ من بعد بناء ذاك الجدار. فضلًا عن عشرات الاقتحامات، ومئات الجرافات والاعتقالات، وكل صنوف القتل، وحصار يتلوه آخر فآخر، إلى أن يغدو فعل الحصار مطابقًا لفعل الجدار، من دون أن ننسى الحروب اللانهائية على غزّة.

سيكون حصيفًا أن يقرأ المرء ما كتبه الفلسطينييون بعد أوسلو، الفلسطينييون الشباب تحديدًا، ويقارنه بكتابات الجيل الأكبر، ليقف على قوّة الرواية الجمعية في رفد الذاكرة بممكنات هوية متماسكة صلبة صلدة، وصولًا إلى الاستمرار بالمقاومة و"تسليم الراية" للجيل الأصغر.

اقرأ أيضًا: عن حاضر كان ينقصنا

الرواية الجمعية للنكبة والنكسة وما تلاها، قبل أوسلو وقبل الجدار، تسمح لكل قصّة شخصيّة فلسطينية بالاندماج فيها بسلاسة. وإذ يبدو الأمر معطى ونافلًا لوهلة الوهلة الأولى، فإنه ليس كذلك على الإطلاق، على العكس تمامًا؛ قوّة الأدب والفنون عامّة تأتي تمامًا من هذه النقطة الخفية؛ إدراك الهوية الجمعية، ثم بنائها، ثم تدعيمها. والاستناد إليها في كل مرّة يرن السؤال الواضح الفاضح: من أنا؟/ من نحن؟



أمّا الانفصال الكبير بين "الرواية الجمعية الرسمية" لاتفاق أوسلو وجدار التمييز العنصري من جهة، وما يخبّره الأدب والفنون من جهة أخرى، يعني أن القصّة العامّة أو "الرسمية" لا تؤلّف إطارًا متماسكًا، يتيح للفرد الانضواء بقصته الشخصية تحته. ثمة تشظٍ واضح، وانكسار وتكسير، لا على مستوى الهويّة بالطبع، بل على مستوى آخر يخلخل السؤال الواضح الفاضح إيّاه: من أنا؟/ من نحن؟

اقرأ أيضًا: أقلت مقاومةً؟

يعرف الشبان الفلسطينييون من هم، وربما يحفظون مقطعًا من قصيدة لمحمود درويش يقول: "من أنا؟ هذا سؤال الآخرين"، مدركين أن لا كسر في الهويّة، فهي صلبة صلدة ورثوها سالمة كاملة، إلا أن الكسر كلّه في مكان آخر؛ موجود في الواقع المعيش في فلسطين التاريخية كلّها، لا فلسطين أوسلو فحسب؛ جنود ومستوطنون، شرطة ومستوطنون، عسكر ومستوطنون.

مستوطنون في كل مكان. هنا جدار التمييز العنصري الإسمنتي المرئي، وهنا أيضًا جُدُرٌ أخرى للتمييز العنصري، لكنها غير مرئية، بل محسوسة ومعيشة في أبسط نشاط يومي في كل مكان في فلسطين.

مستوطنون تمنحهم "دولتهم" فرصة للتدريب على استعمال السلاح من أجل قتل الفلسطينيين كل الفلسطينيين. كذا طاف على وسائل التواصل الاجتماعي، شريط فيديو يصوّر المستوطنين يتدربون على استعمال السلاح، وكيف لا يفعلون؟ فـ"هويتهم" لا تخبر إلا أمرًا وحيدًا: الاحتلال.

المساهمون