أقلتَ مقاومةً؟

أقلتَ مقاومةً؟

06 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الفلسطيني محمد جحا
+ الخط -
"للوهلة الأولى زلزلتني الناصرة، باثّة فيّ الحياة. من بين كل الأماكن الفلسطينية التي زرتها، فإن الناصرة هي الأغنى في المعنى والأكثر تواريًا في الذاكرة". هذه كلمات المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، عند زيارته الناصرة، مدينة سيدنا المسيح عام 1992. وقبل ذاك، كان لصور الأماكن في فلسطين التي التقطها المصوّر السويسري، جون موهر، أثرٌ كبيرٌ في نفس المفكّر وقصّة تستحق أن تروى. اقترح سعيد وضع صور من فلسطين في بهو مبنى الأمم المتحدة إبّان عقد مؤتمر دولي عن القضية الفلسطينية عام 1983، واختار المصوّر السويسري موهر للمهمة. "لأمر ما" قرّر القائمون على ترتيبات المؤتمر، أن كتابة أي تعليق رفقة الصور، سيخدش "نظر" المؤتمرين. فمنعت أية كتابة خشية الإشارة ولو بخجل إلى ظلم الفلسطينيين التاريخي. القمع "الأممي" هذا، لم يعدم بالطبع عدّ الذرائع والحجج وقتها، فهذا دأب المؤتمرين الأمميين، وقد رأينا منذ أيام قليلة، كيف تبارى المؤتمرون في قاعات الأمم المتحدة بالاجتهاد لفظيًا من أجل تحقيق مصالحهم "رسميًا" بقطع النظر بالطبع عن الضحية.
المهم أن "القمع الأممي" ولّد كتابًا هو ثمرة تعاون بين المفكّر الفلسطيني والمصوّر السويسري : "بعد السماء الأخيرة"، والعنوان كما لا يخفى مقتبس من واحدة من قصائد محمود درويش الجميلة. في الكتاب استفاض المفكّر في التعبير عن فلسطينه الظاهرة في الصور التي اختارها رفقة المصوّر من مجموعته. كتابة ولا شكّ ممتلئة بالمقاومة الجمالية الحرّة بالضرورة ضدّ تنميط الفلسطيني ومحو المعنى من حكايته، وضدّ أيضًا "القمع الأممي".

اقرأ أيضاً: فلسطين في الخيال

وإذ يتآخى الفنّ والفكر معًا، يكون المعنى قادرًا على المقاومة والإصرار وصولًا إلى إلهام الآخرين بشرارة المقاومة، وهو ما يولّد استمرارها، إذ لا يمكن لمعنىً مقاوِمٍ حقيقيٍّ أن يصل من دون أن يرفده الفكر، أو بتعبير آخر ؛ وضوح الأمر في الذهن، فلا تشوّشه ولا تعتم عليه "اجتهادات السياسيين اللغوية" التي تضفي شرعية على كل عملٍ رديء.
كذا هي الأمور واضحة مجلوة في ذهن ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، السينمائي الفلسطيني النبيل، إيليا سليمان. فمن خلال كلماته البسيطة ظاهرًا والعميقة باطنًا، تفلت كلمة "المقاومة" من تهافت المعنى والدرك الأسفل الذي أوصلها إليه كلّ السياسيين ؛ "كلّن يعني كلّن"، وتنبثق مجددًا من غير أي سوء، مقترنة بمعانٍ جليلة ؛ النبل والصدق. هي المقاومة الجمالية، الحسناء التي فتنت الشعر الفلسطيني الحديث، فاعتمدها هوية في القصائد، الدرويشية منها خصوصًا.
ولا يبدو مفهومًا تمامًا كيف انتقلت صورة الثقافة الفلسطينية المشعّة من الشعر إلى السينما، لكأن أفلام إيليا هاربة من قصيدة لم تُكتب بعد، إلا أن المشترك بين الشعر والسينما الفلسطينية هو هذه المقاومة، التي لن تكفّ عن إضاءة طرق معبّدة وإنارة دروب لمّا تُعَبَّد بعد.
تخرج الناصرة من تواريها القسري في الذاكرة، كما كتب سعيد، لنراها رأي العين في سينما من نوعٍ خاص تمزج الواقع والخيال، ليغدو التأويل رافعتها صوب الاستعارة الكبرى، إذ إن إيليا سليمان جلا المعنى والنظر، ووسّع المكان، فغدت مدينة المسيح مدينة كونية، ممتلئة معنى وإصرارًا. والأهم أنها غدت غير منبتّة الصلة لا عن تاريخها ولا عن حاضرها، وغير منقطعة أيضًا عمّا يدور في هذا العالم القاسي.

اقرأ أيضاً: عن حاضر كان ينقصنا

للضعفاء صورتهم ومكانهم في كلّ فن ينطلق من أرضية وضوح الأمور في الذهن، وسماء الإصرار والمقاومة. عبْرَ الفنّ متآخيًا مع الفكر، عرفنا فلسطين؛ قريةً فأختها ممحوّة، وبقايا كنائس مهجورة، وبيوتاً هُجّر أصحابها، وغياباً غدا بمنزلة الحضور، وفلسطينيين مقاومين وصامدين يريدون الحياة، "إذا استطاعوا إليها سبيلا"، ولم نعرفها جميلة بهية - كما هي في الفنّ والفكر- في خطب الساسة واتفاقاتهم وخرائطهم وتصريحاتهم الثرثارة وعشقهم اللا نهائي للكاميرا، هم المصابون بتناذرها، ولعلّهم لا يتمنون إلا أن يغدو التناذر مرضًا مزمنًا.
للضعفاء صورتهم ومكانهم في كلّ فنّ رفيع وفكر فذّ، لهم الشعر والرواية والمسرح والسينما والفنون أجمعين. هم الخجلى أيّان تصطاد كاميرا "شاطرة" وشريرة، صورتهم، مهجَّرين منزّحين مهرَّبين، متدفقين على بلاد "أجنبية"، أو خارجين من تحت أنقاض بيوتهم، بأجساد مشظّاة ودماء سيّالة وريحٌ من الإسمنت تخنق الحياة. لكنهم الأنقى والأقوى والأنبل.

المساهمون