حساسية فرنسية من مركزية العاصمة باريس

حساسية فرنسية من مركزية العاصمة باريس

19 ديسمبر 2020
باريس في زمن الوباء (كريستوف أرشامبول/ فرانس برس)
+ الخط -

يشعر سكان المدن والقرى الفرنسية بتمييز متعدد الاتجاهات ضدهم، من جانب أهل باريس، كما أنّ المركزية التي تحظى بها العاصمة في جميع الشؤون تبقى محل انتقاد من هم خارجها

أيام قليلة ويتوقف فرع إذاعة "فيب" الموسيقية الخاص بمدينة ستراسبورغ، شرقي فرنسا، عن الإرسال، كما فرعاها في مدينتي نانت (غرب) وبوردو (جنوب غرب). انطلاقاً من نهاية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، سيكون على سكان هذه المدن الراغبين بمتابعة "فيب" أن يستمعوا إلى فرعها المركزي الواقع في العاصمة باريس. يتملّك الغضب ألين عندما تفكر في هذه المسألة: "أغلب وسائل الإعلام الوطنية موجودة في باريس، وتخصّص القسم الأكبر من برامجها وأخبارها للباريسيين ولما يجري في باريس. أستمع إلى فيب ستراسبورغ يومياً، وهي إذاعة موجودة في المدينة وتتوجه لسكانها وتعدّ برامجها انطلاقاً من النشاط الثقافي والموسيقي فيها. غداً، سيكون علينا الاستماع مجدداً إلى ما يجري في باريس، بصوت مذيعين باريسيين". عند سؤالها إن كانت تكره العاصمة الفرنسية وسكّانها، تجيب ألين أنّ المسألة "ليست مسألة كره. المشكلة مشكلة هيمنة. فرنسا بلد شديد المركزية، ولا أعرف بلداً آخر ينافسها في هذا. كل ما له ثقل وأهمية موجود في باريس، أو عليه أن يمرّ بها. لا تحظى بقية بقاع البلد إلاّ بحضور نادر، غالباً ما يكون فولكلورياً. كثير من الإعلاميين والسياسيين أو الباريسيين العاديين يتحدثون عن مدن فرنسية أخرى وكأنّهم يتحدثون عن قرى نائية يجهلون لغة أهلها".

لا يأتي كلام ألين، الذي تفضي به إلى "العربي الجديد"، من "جهل" بباريس، كما تنبّه، بل من "خبرة سنوات... إذ إنّني مثل أغلب أبناء جيلي المولودين في تسعينيات القرن الماضي، شكّل المرور بباريس مرحلة لا بد منها في تجربتي. إن أردتَ الاعتراف بك مهنياً، فعليك أن تحصل على دمغة باريس. وهذا ما فعلته. عملت ست سنوات هناك ودفعت أثماناً عدّة مقابل ذلك: كان عليّ أن أتحمل، لسنوات، تعالي زملائي، ومخيالهم المستمَدّ من أفلام كوميدية كاريكاتورية حول باقي فرنسا، والتخلّي عن لهجتي والتحدث بلهجة الباريسيين كي يجري قبولي، ولأتجنب إثارة الانتباه والأسئلة".
تشكل اللغة واحداً من المجالات التي تظهر فيها، بجلاء، علاقة الحساسية والهيمنة بين باريس وباقي فرنسا. وما تقوله ألين تؤكده العديد من الدراسات، كدراسة لمعهد "إيفوب"، نُشرت في مطلع العام الجاري، تفيد بأنّ 16 في المائة من الفرنسيين (أكثر من 10 ملايين شخص) تعرضوا لتمييز لغوي، على أساس لهجتهم أو استخدامهم لقواعد اللغة ومفرداتها. ولا تطاول الأسئلة أو السخرية شباناً وشابات باحثين عن عمل فحسب، بل تشمل حتى رئيس الوزراء، جان كاستكس، الذي ظلّ طوال الأسابيع الأولى من تعيينه في منصبه، في مطلع يوليو/ تموز الماضي، موضوعاً لأسئلة الصحافيين (الباريسيين) وتعليقاتهم بسبب لهجته "البروفانسية" التي تجعل منه "أول رئيس وزراء يتكلم بلكنة في الجمهورية الخامسة" بحسب تعبير إحدى مذيعات قناة "تي في 5 موند". أن تقول لشخص، في اللغة الفرنسية، إنّه يتحدث "بلكنة" فذلك يعني أنّه يتحدث بلهجة غير باريسية. وهو أمر يدلّ، في رأي عالم اللسانيات الاجتماعية، فيليب بلانشيه، على هيمنة باريسية على المجال الشفوي في فرنسا. يقول بلانشيه، لـ"العربي الجديد": "هذه إحدى صور التعالي؛ فالباريسيون يعتقدون أنّ لهجتهم كونية، وبأنّها التعبير الأمثل عن النطق الفرنسي الصحيح، لا سيّما في الفضاء العام. يترافق هذا مع نظرة إلى اللهجات الأخرى بوصفها محلية ويتكلمها أناس لم يسبق أن خرجوا من قراهم".
تكاد تكون كلمة "بروفانس" التي أحيلت إليها لهجة رئيس الوزراء الفرنسي، خصوصيةً لغوية فرنسية، وهي تعني، في استخدامها هذا، كلّ مساحات التراب الفرنسي باستثناء باريس. لا يثير هذا المصطلح غضب ألين وحدها، بل كثير من الفرنسيين، ومن بينهم بلانشيه. يقول: "اكتسبت الكلمة هذا المعنى، تدريجياً، خلال نشأة فرنسا الحديثة، بعدما كانت تشير إلى المكونات القديمة لمملكة فرنسا. يبقى استخدام المصطلح حكراً على المحكية الباريسية، ويُستخدم فيها بالمفرد، وكأنّها طريقة للقول إنّ لدينا باريس من ناحية، وكل ما تبقى من فرنسا من ناحية أخرى. أي إنّ التمييز يطاول هذا الكلّ، الذي يوضع في سلة واحدة. غالباً ما تُرافق المصطلح صور نمطية قائمة على شيء من الازدراء، مثل: الحياة البروفانسية، أو مدينة بروفانسية، وهي تعابير تشير إلى أنّ شيئاً ما لا يحدث في هذه المدن وأنّ الحياة فيها مملة". ويعلق: "لا أتحمل سماع باريسيين يتفوّهون بتعابير كهذه. الأمر يزعجني بشدة".
لكنّ اللغة الفرنسية لا تُظهر علاقة الحساسية من طرف واحد فحسب، بل تحتوي العديد من التعابير التي تمثّل الخطاب المضاد للخطاب الباريسي وتعبر عن نقمة غير الباريسيين على أبناء العاصمة وازدرائهم لهم. يشرح بلانشيه، الذي وقّع العديد من الكتب والأبحاث حول قضية التمييز اللغوي، ومسألة اللهجات واللغات الإقليمية في فرنسا، أنّ كلمة "باريسي" باتت، بحد ذاتها، شتيمةً خارج باريس: "إذا أردت شتم شخص أو الاستهزاء به، ناده: باريسي. ومصطلح باريغو، المشتق من الكلمة نفسها، يحمل نقمة أكبر، فهو يعني كلّ ما تعنيه كلمة باريسي مرفقاً بالازدراء. هذان الاستخدامان مرتبطان بشكل وثيق بتاريخ طويل، ما زال حاضراً، من الهيمنة الباريسية ومن نظرة متعالية إلى بقية الفرنسيين. بعض الأقاليم تعيش الهيمنة الباريسية بوصفها استعماراً، كما هي الحال في جزيرة كورسيكا".

طلاب وشباب
التحديثات الحية

من جهته، يجد عالم الاجتماع، ميشيل بيرالدي، أنّ الأمر مبالغ به بعض الشيء. لا ينفي بيرالدي، الذي وضع العديد من الكتب والأبحاث حول مرسيليا، جنوبي فرنسا، حساسية بين العاصمة الفرنسية وباقي المدن، لكنّ هذه الحساسية تبقى، في رأيه، قضية تخصّ الطبقات البرجوازية من غير الباريسيين والموظفين أو الذين تجمعهم بالعاصمة علاقة عمل. في تحليله للظاهرة ، يقول إنّ "باريس مدينة السلطة، بكلّ المعاني. إنّها المدينة التي تمتصّ الطاقات. مع تلاشي ظاهرة العواصم الإقليمية في فرنسا، أصبحت باريس المدينة الكبرى الوحيدة، وبات أمام المهتمّين بها احتمالان: إما أن ينضموا إلى الجوقة في العاصمة، أو أن يكونوا من المحبطين الذين لم يتمكنوا من اللحاق بالركب. خطاب الحساسية يأتي من هذا الإحباط. لا بدّ من التذكير بأنّ التعارض والمواجهة مع باريس يشكلان، منذ زمن طويل، جزءاً من هوية الطبقة البرجوازية غير الباريسية من متعلمين ومثقفين. أما الطبقات الشعبية في مدن مثل مرسيليا وتولوز وغيرهما، فباريس آخر همّها. الأحياء الشعبية في مدينة مرسيليا تهتم بالجزائر، وداكار، لا باريس. وحدهم المثقفون، والأشخاص المرتبطون بباريس بعلاقة مهنية أو اجتماعية، من يهتمون بباريس".

المساهمون