جامعات فرنسا تسعى للتميز عالمياً

جامعات فرنسا تسعى للتميز عالمياً

11 أكتوبر 2020
زيارة حكومية أخيرة لـ"باريس ساكله" (مارتين بوريو/ فرانس برس)
+ الخط -

قدرة بعض الجامعات الفرنسية على الوصول إلى مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية المرموقة، يمكن أن تُقرأ من خلال استراتيجية اندماج الجامعات في العقد الأخير، التي أثبتت نجاحها

تأتي الرياح، أحياناً، بأفضل ممّا تشتهي السفن. هذه هي حال جامعة "باريس ساكله" التي وضعها "تصنيف شانغهاي" الأكاديمي، لعام 2020، في المركز الرابع عشر بين أبرز جامعات العالم، في وقت كانت تأمل فيه، بحسب تصريحات لمديرتها سيلفي ريتايّو، دخولَ قائمة العشرين في أفضل الأحوال. والحدث هو الأول من نوعه لجامعة فرنسية. في التصنيفات الفرعية، انتزعت الجامعة المركز الأول عالمياً في حقل الرياضيات، بحسب "شانغهاي" والمركز التاسع في حقل الفيزياء. وحتى الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، لم تكن "باريس ساكله" جامعةً بالمعنى الشائع للكلمة، بل تجمّعاً يضمّ العديد من مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي والمدارس العليا. تجمّعٌ حصل، عام 2014، على الوضع القانوني الذي يسمح له بمنح درجات تعليم عالٍ (إجازة، وماجستير، ودكتوراه)، قبل أن يجري إعلانه جامعة.
يشكّل صعود نجم "باريس ساكله" على مستوى جامعات العالم جزءاً من ظاهرة أعمّ، تتمثل ببروز متزايد للجامعات الفرنسية في تصنيفات مثل "شانغهاي" و"تايمز هاير إيديوكيشن". للمرة الأولى، حلّت فرنسا هذا العام في المركز الثالث، بعد الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، بين قائمة البلدان الأكثر احتضاناً لجامعات جيّدة التصنيف في "شانغهاي". والملاحظ أنّ هذا التحسن في تصنيف الجامعات الفرنسية يترافق مع سياسة تقارب واندماج تعمل بها مؤسسات التعليم العالي الفرنسية منذ سنوات، إذ إنّ كلّ الجامعات الفرنسية الواردة بين أفضل 100 جامعة في "شانغهاي" هي مؤسسات قامت بما قامت به "باريس ساكله"، أي إنّها حصيلة تجمّع أو اندماج عدد من الجامعات والمدارس العليا ومراكز الأبحاث. فجامعة "باريس للعلوم والآداب (PSL)" التي احتلت المركز الـ36 في التصنيف، هي حصيلة تقارب لعشر مدارس عليا وجامعات، منها "المدرسة العليا للمعلّمين في باريس" و"المعهد الوطني العالي للكيمياء في باريس" و"جامعة باريس - دوفين". أما جامعة "سوربون يونيفرسيته" (المركز الـ39)، فهي حصيلة اندماج جامعتي "سوربون الرابعة" و”سوربون الخامسة".

أسئلة كثيرة تُطرح، في الفضاءين الأكاديمي والإعلامي في فرنسا، حول التزامن بين هاتين الظاهرتين، ومن أبرزها السؤال عمّا إذا كانت عمليات التجمع والدمج التي يشهدها التعليم العالي منذ سنوات تهدف إلى اللحاق بركب الجامعات المهيمنة على التصنيفات العالمية (الإنكلوسكسونية عادة). 
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول عالمة الاجتماع كريستين موسان، وهي أستاذة في "معهد الدراسات السياسية" في باريس، ومتخصصة بالتنظيم الجامعي، إنّ "لتقارب الجامعات وانصهارها أسباباً عدة لا يمكن اختصارها بالرغبة في الوصول إلى تصنيف متقدّم على المستوى العالمي. مسألة الظهور عالمياً حاضرة، بلا شكّ، في أذهان أصحاب القرار. لكنّ ما أسميه موجة الانصهار والتقارب بين الجامعات الفرنسية أقدم بكثير من طفرة التصنيفات الجديدة فرنسياً. بدأت هذه الموجة عام 2009، الذي شهد اندماج جامعات مدينة ستراسبورغ في جامعة واحدة، وتلاها اندماج جامعات إكس - مرسيليا في 2012، ومن بعدها جامعات بوردو عام 2014، والقائمة تطول منذ ذلك الحين". 
تشير موسان إلى سياق محلي فرنسي وُلدت فيه "حمّى الاندماج" هذه، بحسب وصفها، وهو سياق مرتبط بسياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ 2007: "أعلنت الدولة الفرنسية، في بداية العقد الماضي، عن مشاريع لتمويل التعليم العالي والبحث العلمي، حمل أبرزها اسم مبادرة الامتياز. وكانت هذه المبادرة تهدف إلى دعم وبلورة شريحة من المؤسسات الجامعية ذات الكفاءة والأداء العاليين. من أبرز ما اتصف به هذا المشروع أنّ الجامعات التي تقدّمت، بمفردها، بطلبات تمويل للمشاريع البحثية لم تنجح في الحصول على هذا التمويل، الذي ذهب للتحالفات والجامعات المندمجة أو التي تخطّط للاندماج. هذا الخيار الحكومي دفع الجامعات الراغبة في الحصول على دعم الدولة للتوجّه أكثر وأكثر نحو التقارب والانصهار، خصوصاً أنّ مبادرة الامتياز تشكّل مورداً مالياً كبيراً لأيّ مؤسسة جامعية تنالها. أذكر أنه قيل صراحةً، لإحدى الجامعات التي لم تستطع الحصول على الدعم، إنّ رفض طلبها يعود إلى عدم ذهابها في الاندماج إلى الحدّ الكافي"، بحسب موسان. 

اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات على بدء هذه الموجة، يصل عدد تجمعات مؤسسات التعليم العالي في فرنسا إلى نحو عشرين. وبالرغم من التكاليف الهائلة التي تتطلبها عمليات التجمع والدمج، فإنّ هذه الاستراتيجية تبدو في طريقها للاستمرار كمنهج للجامعات الفرنسية في السنوات المقبلة. وعلى سبيل المثال، فقد كلّف مشروع "باريس ساكله" وحده، خزينةَ الدولة الفرنسية أكثر من 5 مليارات يورو (5.88 مليارات دولار) خلال عشر سنوات. ميزانية يقول المدافعون عنها إنّها معقولة إذا ما عرفنا أنّ هذه الجامعة تقدّم، وحدها، 13 في المائة من مجمل الإنتاج العلمي الفرنسي، وتحتضن أكثر من 10 آلاف باحث علمي. تعلق موسان: "لا تُصرف مبالغ طائلة كهذه، ولا تُبذَل جهود كبيرة تسبّب قلب نظام عمل الجامعات الفرنسية رأساً على عقب، لمجرّد الظهور في موقع أفضل في تصنيف عالمي". مع ذلك، فإنّ مؤلّفة كتاب "الجامعات الفرنسية في سباقها الكبير" (2017) لا تنفي أن يكون الظهور في مراكز متقدمة عالمياً من الأهداف الأساسية لسياسات الدولة الفرنسية في ما يخص التعليم العالي. وهو، في الواقع، أمرٌ لم يخفه أيّ من وزراء التعليم العالي في الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ عام 2007.

المساهمون