جو جبر... "دي جي" يلهب ليالي بيروت رغم الشلل الدماغي

جو جبر... "دي جي" يلهب ليالي بيروت رغم الشلل الدماغي

28 يونيو 2022
يعشق جو الموسيقى (حسين بيضون)
+ الخط -

مطلع كلّ أسبوع، يرقص عشاق السهر على أنغام موسيقاه وتوليفاته الغنائية في إحدى حانات بيروت الليليّة، وينتظره آخرون منتصف الأسبوع في ملهى آخر، وخلال أيام مختلفة في حانة ثالثة. جو جبر (25 عاماً) يُطلق العنان لأنامله ويديه المضطربتين حركيّاً، فيتنقّل جاهداً بين أزرار اللوحة الإلكترونية الخاصة بتشغيل الموسيقى، قبل أن يتناغم ويتفاعل على طريقته مع كلّ أغنية ولحن. 
الشاب اللبناني الذي امتهن الـ "دي جي (DJ)" من خلال موقع يوتيوب ومن دون أن يساعده أو يعلّمه أحد، حقق حلمه وشغفه بعالم الموسيقى والغناء. انطلق بحفلاتٍ خاصّة في المنازل والمطاعم منذ عام 2013، قبل أن يصبح قبل نحو عامٍ أحد لاعبي الموسيقى المعروفين ممّن يشعلون ليالي بيروت وأجواءها الصاخبة.
الشاب المعروف باسم "DJoe" لديه شلل دماغي منذ ولادته نتيجة خطأ طبي تسبّب باضطرابات في الحركة وضعف في الاتزان والتنسيق العضلي، بالإضافة إلى صعوبة في النطق والتعبير. لكن من خلال جهاز يساعد على المشي، يستطيع الوصول إلى عمله حيث يستقرّ على كرسيّه في مكانه المعتاد ترافقه ابتسامة عريضة. يجهّز لوحة التحكم ومعدّات الـ"دي جي" ويراجع برنامجه الموسيقي بعناية شديدة، قبل أن يبحر بالحاضرين إلى عالم من الرقص والفرح، على وقع أنماطٍ موسيقيّة متنوّعة من الهاوس والديسكو إلى التكنو وغيرها من الألوان الموسيقية والأغاني والريمكس (Remix).
"يسخرون مني لأنّي مختلف عنهم، وأضحك عليهم لأنّهم نسخة عن بعضهم" هكذا يبدأ حكايته عن معاناته ورحلته الطويلة. ويقول لـ "العربي الجديد": "عانيتُ من نقصٍ في الأكسجين منذ ولادتي، لكنّ الطبيب المعالج لم يضعني في حاضنة الأطفال، فأصبت بشلل دماغي (cerebral palsy) أدّى إلى خلل في الحركة وصعوبة في النطق، فلا يفهمني إلّا المقرّبون منّي".
كما يتحدث عن تضحيات عائلته ومتابعتهم الحثيثة لنموّه ورعايته ودعمه نفسيّاً وجسديّاً: "انهارت أمّي مدّة شهرين، فالمرأة المرحة، المليئة بالحياة لم تكتمل فرحتها، إذ إنّ صورة الطفل الذي يركض ويضحك ويلعب ويتكلّم تبعثرت في مخيّلتها، وانحفرت في ملامحها علامات الحزن والأسى. لم تفارقها الدموع إلى أن قصدت مؤسّسة سيزوبيل (رعائية)، وكنتُ حينها بعمرٍ لا يتجاوز ثمانية أشهر، وهنا بدأت المسيرة نحو مستقبلٍ مضيء. رافقت المساعدة الاجتماعيّة والدتي غلاديس، وكانت سنداً كبيراً لنا. كما ساعدني فريق العمل على التقدّم وتقبّل الذات وإتقان العيش بفرحٍ رغم كلّ الصعوبات". يتابع: "دخلتُ قسم الحضانة، ولم يكن تعلّم الاتّكال على النفس بأمرٍ سهل. فكي أتمكّن من تناول الطعام والاستحمام وارتداء الملابس بمفردي، تطلّب ذلك ألماً كبيراً وتحديات دائمة وسنوات عدة. لم أكن قادراً على المشي وكانت والدتي ترافقني على كرسيّ نقّال، غير أنّ تمسّكها بالصلاة والرجاء منحنا القوّة كي لا نستسلم أو نفقد الأمل".

الصورة
يعشق جو الموسيقى (حسين بيضون)
يضحك عندما يتذكّر كيف كانوا يستخفّون به (حسين بيضون)

ليالٍ من البكاء والتعب والمثابرة والنضال رافقت جو وعائلته طوال خضوعه للعلاج. عند بلوغه سن الخمس سنوات، قرّر طبيبه المعالج إجراء عمليّة جراحيّة في عضلات الساقين. وبعد علاجٍ فيزيائي متواصل، كانت المفاجأة بقدرة جو على المشي بمفرده بواسطة جهاز الـ K-Walker، وهو الشاب الذي لم يقف على قدميه منذ ولادته. خطواتٌ واثقة خطاها حينها، محاولاً قول ما معناه: "هل رأيتم البطل، إنّه يمشي؟"، ليمحو بذلك ماضياً مريراً ويجسّد حلماً طالما تعلّقت به العائلة.

قضايا وناس
التحديثات الحية

جو، الشاب الذي حُرم أكسجين الحياة لدى ولادته، يثابر عبر الإيقاع والموسيقى على إحياء الأمل في نفوس اللبنانيّين، تماماً كما التعبير عن نفسه وأحلامه. وفي معرض حديثه، يضحك عندما يتذكّر كيف كانوا يستخفّون به، وكيف رفضت بعض الحانات والملاهي الليلية توظيفه، لافتاً إلى أنّ قصّته "هي قصّة كلّ إنسان يعاني صعوباتٍ جسديّة أو نفسيّة، يعيش مخاض الولادة في كلّ لحظة، ولكنّه إذا آمن بقيمته كإنسان، يتقبّل ذاته كما هي، فالحياة تستحقّ أن نعيشها في احتفالٍ دائم".

الصورة
يعشق جو الموسيقى (حسين بيضون)
حاز إفادة تدريبيّة في مجال تكنولوجيا المعلومات (حسين بيضون)

الشاب الطموح الذي حاز إفادة تدريبيّة في مجال تكنولوجيا المعلومات (IT) من "سيزوبيل" وجامعة القديس يوسف (اليسوعية)، يتحدث كيف تعلّم القراءة وتهجئة الحروف من خلال تقنياتٍ خاصة بعلاج النطق، كما الكتابة باستخدام الحاسوب والهاتف، كونه لا يستطيع الإمساك بالقلم، وكيف أصبح شابّاً مرحاً يحبّ الحياة ويعشق الموسيقى: "في وحدتي أنظم الشعر وأسترسل بكتابة النثر والخواطر، وقد كتبتُ قصة حياتي ومعاناتي المريرة، ففزت عام 2017 بجائزة لأفضل قصّة". يتابع: "اليوم أستطيع القيام بكلّ شيء تقريباً. تعلّمتُ أنّ الاختلاف غنى، وبأنّ كلّ إنسان مميّز عن الآخر مهما كان شكله أو لونه".
خطأ طبي كان كفيلاً بأن يحوّل حياة طفلٍ حديث الولادة إلى عذاباتٍ متواصلة. وكانت غلاديس السند الكبير لجو. يقول: "رافقتني والدتي في أصعب اللحظات، وردّدت على مسامعي دوماً قولها "بعد الشتاء يأتي الربيع، فأنتَ تتألّم اليوم مثل الطّبيعة، لكنّك ستزهر فرحاً لأنّ ربيعك اقترب". غلاديس التي ساعدته على التّقدّم والتمسّك بالحياة، يصفها جو عبر صفحته على "فيسبوك": "بقولو الدني إم، لأ (كلا) الأم أحلى من هالدني"، مضيفاً في سطور قصته: "أمّي، درعي الحصين والمرأة القديرة الجبّارة التي جعلَتني أعشق نفسي رغم ضعف جسدي، وأحبّ الحياة رغم صعوباتها، فهي مصدر سعادتي وفرحي الدائم".

الصورة
يعشق جو الموسيقى (حسين بيضون)
يرافقه والده بكل حفلاته وسهراته (حسين بيضون)

جو المتطوّع مع منظمة فرسان مالطا في لبنان، أسعفه الحظ يوم انفجار مرفأ بيروت (14 أغسطس/ آب 2020)، إذ نجا من الموت، لكنّه أُصيب بجروحٍ استدعت 31 غرزة، من جراء تطاير زجاج النافذة ووقوعه على ركبتيه، أثناء جلوسه في منزله في منطقة عين الرمانة (جنوب بيروت).
وببضع كلماتٍ، يوجز مدلّل العائلة حبّه لوالده: "علّمني والدي كيف أعيش" لافتاً إلى أنّ والده يرافقه بكل حفلاته وسهراته، وحاضر دائماً لأيّ دعم ومساعدة.

صفحات جو على مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بتجاربه اليومية، بالوفاء لكلّ من سانده وتطلّعاته للحياة والوطن، كما بحسّ فكاهيّ تلمسه عند محادثته. يُدهشك بطاقته الإيجابيّة وابتسامةٍ لا تفارقه. يندمج مع أنغام الموسيقى، يلوّح بيديه متمايلاً مع الألحان، يُطرِب مسامع محبّيه بكبسة زرّ وباقةٍ من أجمل الأغاني.
أشرقت شمس جو بعد خريفٍ طويل ليجسّد بإرادته حال العديد من الأشخاص ذوي الاعاقة في لبنان، ممن يكافحون رغم الإمكانيّات المحدودة، بل المعدومة في معظم الأحيان.

المساهمون