الريفيون الجدد... فرنسيون شباب يهجرون المدن

الريفيون الجدد... فرنسيون شباب يهجرون المدن

07 يناير 2021
عائلة صغيرة في قرية شاتو شالون شرقي فرنسا (Getty)
+ الخط -

حلم مغادرة المدينة للعيش في الريف يراود كثيرين في فرنسا، ممن سئموا الضجيج والحراك الحضري اليومي المنهك، لا سيّما الشباب من بينهم، الذين تزايدت هجرتهم المعاكسة

لا يتجاوز عدد سكان قرية باسي، التي انتقلت إليها كامي مع صديقها أنطوان، آتيَين من مدينة ليون، سبعين شخصاً. بوصولهما، قبل أكثر من عام، ارتفع إلى أربعة عددُ الشباب الآتين من ثالث أكبر المدن الفرنسية للعيش في هذه القرية الصغيرة في إقليم سون ولوار. تعلّق كامي (28 عاماً)، ضاحكة، لـ"العربي الجديد": "أعتقد أنّنا، بإقامتنا هنا، نساهم بشكل كبير في تخفيض متوسط أعمار السكان، المسنّين في معظمهم".
في دراسة لمعهد "إيفوب" نشرت في إبريل/نيسان 2019، وشملت 1008 أشخاص يمثلون مختلف شرائح سكّان المدن الفرنسية، أبدى 57 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم، رغبتهم في الانتقال للعيش في مناطق ريفية. وترتفع هذه النسبة إلى 65 في المائة بين الشباب البالغين ما بين 18 و35 عاماً. بعد عقود، بل قرون، كان فيها الانتقال من الريف إلى المدينة الشكل الأبرز للهجرات السكانية، تشهد فرنسا، منذ سنوات، انقلاباً تاماً في هذا التوجّه، يتمثل في الهجرة المعاكسة من المدن إلى محيطها أو إلى مناطق ريفية أبعد. صحيح أنّ الديموغرافيين يرجعون ولادة هذه الظاهرة في البلاد إلى ثمانينيات القرن الماضي، لكنّها لم تكن تشهد توسّعا كبيرا كهذا الذي تعرفه منذ سنوات. فعلى سبيل المثال، تفقد مدينة باريس، منذ عام 2011، نحو 12 ألفاً من سكانها سنوياً (ما يمثل 0.5 في المائة)، في حين كانت تستقبل بين 2005 و2011، نحو 14 ألف ساكن جديد سنوياً، بحسب "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات". وتعد شريحة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 عاماً و34 عاماً، من الجنسين، أكثر الشرائح تمثيلاً لهذا التوجه الجديد، في باريس وخارجها.

لا يختلف المراقبون، من ديموغرافيين وسوسيولوجيين وصحافيين، حول العنوان الذي يمنحونه لهذا التوجّه، وهو "العودة إلى الطبيعة". في أغلب الدراسات حول الظاهرة، تحضر الرغبة في العيش في أماكن أكثر اخضراراً بين أوائل الأسباب التي تدفع الشباب الفرنسيين إلى مغادرة المدن. وهو سببٌ غالباً ما يكون مقروناً بالبحث عن حياة أكثر جودة، عن هواء أنقى، عن الهدوء وعن نمط عيش يومي وغذائي أكثر صحة وأقل إرهاقاً. تقول ماريا، التي انتقلت من باريس للعيش في دوارنينيه (أقصى غربي فرنسا)، البالغ عدد سكانها نحو 13 ألف نسمة، إنّها اتخذت قرارها لأنّها كانت تبحث "عن الهدوء، وعن علاقة مختلفة مع الوقت، وعن الطبيعة التي افتقدتها بشكل فظيع في باريس". تضيف: "أردت السكن في مكان بأبعاد ومساحة بشرية، لا تأخذ المواصلات فيه نصف يومي. مكان أستطيع أن أقطف فيه الفطر وألتقط الكستناء، أو أزرع فيه ما أريد زراعته. هنا، يمكنني أن أعرف ما الذي آكله، ويمكنني الاقتراب أكثر من العالم الذي يدور بنا، من دورة الطبيعة ومن عناصرها. فضّلت رائحة الغابة ورائحة البحر على رائحة المدينة".
أما كامي، التي غادرت المدينة قبيل قرارها وصديقها الإنجاب، فتقول إنّها أرادت، بانتقالها إلى الريف، حياةً أكثر جودة وصحة، ليس لها فقط، بل أيضاً لابنها: "لا أريد له أن يكبر في مدينة هواؤها ملوث، وأن يقضي حياته بين الإسمنت. أريد له أن يلمس الأرض، وأن يلعب ويتجول في الطبيعة، وأن يأكل مما يراه أمامه فيها". ومثل ماريا، يمثل الريف، بالنسبة إلى كامي، مكاناً يقرّبها أكثر من الأرض ومن العمل بها: "لدينا، أنا وصديقي، أرض مساحتها هكتار. بدأنا زرعتها بالخضروات في بداية العزل الصحي (بسبب كورونا، الذي عاشته فرنسا بين منتصف مارس/آذار ومنتصف مايو/أيار الماضيين)، لكنّنا، كأبناء مدينة، بحاجة لأن نتعلم الكثير في هذا المجال. وسأنقل القليل الذي أعرفه لابني. عليه أن يعرف أنّ هذه الأرض هي التي تمنحه ما يأكل".
تكاد تكون الأسباب التي دفعت مارلين إلى مغادرة مدينة سانت إتيان، للعيش في قرية سان ميشيل دوشابريانو (نحو 350 نسمة)، جنوب شرقي البلاد، متطابقة مع الأسباب التي تستحضرها ماريا. "انتقالي كان مرتبطاً بشكل كبير بحاجتي للعيش في أماكن طبيعية تسمح بعلاقة أكثر هدوءاً مع الوقت، بحياة أكثر بطئاً، وبالبقاء بعيدة عن حركة المدينة وضجيجها اللذين لا يهدآن". ومثل ماريا وكامي، يعني الريف، من بين ما يعنيه، لمارلين، مكاناً يمكنها فيه زراعة بعض النباتات والخضروات، في مسعى "متواضع" كما تقول، لتأمين جزء صغير من غذائها، وباعتباره نشاطاً يجلب المتعة قبل أيّ شيء. وقع اختيار مارلين على هذه القرية الواقعة في إقليم أردش الذي يغري اليوم كثيرين ممّن باتوا يعرفون بـ"الريفيين الجدد" بعدما عرف هجرات كبيرة لسكانه نحو المدن خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. لكنّ سعادتها بالعثور على ما تبحث عنه لم تمنعها من مساءلة نفسها حول معنى عيشها في "فقاعة هادئة" بعيداً عما يشغلها في المقام الأول، وهو نشاطها السياسي والمهني، لا سيما تحسين شروط سكن اللاجئين. تساؤل أدى بها للعثور على حلّ وسط يتيح لها القيام بعملها من دون الغرق في الحياة المدينية: "أسكن حالياً في عربة متنقّلة... في الحدائق المحاذية لمدينة سانت إتيان. وهكذا أشعر أنّني أعيش في الريف". بالإضافة إلى عملها، كان لدى مارلين سبب آخر دفعها إلى مغادرة القرية الصغيرة والعودة إلى محيط المدينة: صعوبة التعرف على أشخاص جدد: "كنت أقيم في منزل مع ثلاثة أشخاص آخرين، وقد عانيت للالتقاء بمعارف جدد، رغم أنّ القرية تضم العديد من الريفيين الجدد مثلي. عشت عزلةً. وربما حالت رحلاتي المستمرة خارج القرية من أجل العمل بيني وبين بناء علاقات اجتماعية هناك".

قضايا وناس
التحديثات الحية

تجربة عاشتها كذلك آن، التي انتقلت مع صديقها، قبل سنوات عدة، من باريس إلى قرية سومن (نحو 1500 نسمة) جنوبي البلاد. لكنّ صعوبة بناء علاقات جديدة لم تدفع آن وصديقها إلى التخلي، وإن مؤقتاً - كما هي الحال مع مارلين- عن خيار العيش في الريف: "عانينا في بداية الأمر في مسألة عقد الصداقات. تطلّب ذلك وقتاً طويلاً، كأيّ شيء آخر في الريف: كلّ شيء يأخذ وقتاً أكبر بكثير مما قد يأخذه في المدينة. الإيقاعان مختلفان تماماً. لكنّنا استطعنا، منذ ذلك الحين، بناء علاقات جديدة والتعرف إلى كثيرين". وبخلاف بقية الأشخاص الذين تحدثوا إلى "العربي الجديد" تقول آن، إنّ السبب الأول الذي قادها وصديقها إلى الخروج من باريس، اقتصاديّ: "كنت أعيش في بيت والديّ. لم تكن لديّ القدرة المادية على استئجار غرفة أو شقة في باريس. المدينة شديدة الغلاء وشروط السكن فيها أكثر من سيئة. نعيش حالياً، أنا وصديقي، بمصروف أقل بثلاث مرات مما كان يلزمنا لنعيش في باريس. يبلغ إيجار بيتنا - وهو 80 متراً مربعاً- 500 يورو، وهو مبلغ لا يتيح لنا العيش في علّية حتى بباريس".

المساهمون