علم جديد يجدّد الحراك الأمازيغي في الجزائر

علم جديد يجدّد الحراك الأمازيغي في الجزائر

15 ديسمبر 2017
العلم الأمازيغي مرفوعاً في التظاهرات (العربي الجديد)
+ الخط -
لا تهدأ منطقة القبائل في الجزائر إلا لتشتعل مجدداً في حراك من أجل الهوية واللغة الأمازيغية، وذلك منذ أول "ربيع أمازيغي" في إبريل/ نيسان 1980، حين انتفضت المنطقة معارضة للسلطة ومتحركة لتحقيق مزيد من المكاسب. كان العنف والقمع جزءاً من هذا الحراك الطويل الذي تكرر في سنوات 1994 و2001 و2014، لكن مؤشرات الحراك الأمازيغي الراهن، حملت مخاوف جدية بسبب جملة عوامل داخلية ومؤثرات خارجية ودخول حركة ترفع علماً وتطالب بالحكم الذاتي على خطه، مقارنة مع تراجع الأحزاب والكيانات التمثيلية التقليدية للمنطقة.

في هذا السياق، تشهد مدن وجامعات بجاية والبويرة وتيزي وزو وبومرداس، التي تشكل منطقة القبائل (الأمازيغ) شرقي الجزائر، حراكاً وغلياناً شعبياً وطلابياً على خلفية رفض البرلمان الجزائري مطلباً لأحد نواب حزب العمال اليساري، لإدراج بند في موازنة 2018 لزيادة مخصصات تعليم اللغة الأمازيغية وتعميمها على مجمل المدارس في البلد، لكن البرلمان الخاضع لسيطرة أحزاب السلطة رفض هذا التعديل، ورفضت أحزاب المعارضة المتبنية للمطلب الأمازيغي، كجبهة القوى الاشتراكية والتجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية، مسايرة هذا المطلب، بسبب خلافات سياسية مع حزب العمال ومبادرته المنفردة.

وسريعاً تحرّك الشارع في منطقة القبائل على خلفية ما وصفه ناشطون في الحركة الأمازيغية بـ"الإقصاء الذي طاول اللغة الأمازيغية"، رغم إقرارها كلغة وطنية ورسمية في الدستور. ونظّم طلبة الجامعات في مدن تيزي وزو والبويرة وبجاية مسيرات وتجمعات احتجاجية، كان لافتاً فيها رفع المحتجين للعلم الأمازيغي. وهو علم صممته "الحركة من أجل استقلال القبائل"(ماك)، المطالبة بإقرار حكم ذاتي في منطقة القبائل. وفي مدينة البويرة، 120 كيلومتراً شرقي العاصمة الجزائرية، عمد طلبة محتجون إلى إزالة العلم الوطني من فوق مدخل الجامعة، ورفع "العلم الأمازيغي"، قبل تدخّل قوات الأمن لتفريق الطلبة.

وفي مدينة بومرداس، نظّم تلاميذ مدارس وطلبة الجامعة مسيرة وسط المدينة للمطالبة بإعادة الاعتبار للغة الأمازيغية، وحمل المتظاهرون شعارات تنادي بإعادة الاعتبار للغة الأمازيغية، والتنديد بما يعتبرونه "محاولات طمس الهوية الأمازيغية من قبل بعض التيارات في السلطة"، وامتد الحراك الأمازيغي إلى منطقة باتنة، في أقصى شرقي الجزائر. لكن السلطات الجزائرية المرتعشة من مآلات هذا الحراك، وبخلاف عادتها في المسارعة إلى استعمال القمع والعصا الأمنية في مواجهة أي احتجاج في الشارع في العاصمة وباقي مدن البلاد، تراقب الوضع عن قرب وتحاول التريث واستبعاد أي حل أمني من شأنه الدفع باتجاه تأزيم الأوضاع.



وأبدى مراقبون اعتقادهم بأن "السلطة تشعر بأنها بصدد محاولة لاستدراجها باتجاه المواجهة مع الشارع في هذه المنطقة. وهي مواجهة لا ترغب في إشعال فتيلها بسبب تعقيدات الوضع الداخلي، والترتيبات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في ربيع 2019، خصوصاً أن طابع التركيبة السوسيولوجية والعرقية للمنطقة، يشرع الأبواب أمام توتر أكبر قد ينتهي إلى عواقب وخيمة، إذا ما حصلت المواجهة هذه المرة بين الشارع والسلطة.

من جهته، حذّر حزب جبهة القوى الاشتراكية المتمركز في المنطقة، من إشعال فتيل فتنة جديدة. وقال النائب عن الحزب جمال بالول، إن "أطرافاً سياسية تحاول استخدام منطقة القبائل من أجل التموضع السياسي في المستقبل القريب، ومحاولة إشعال النار من جديد في منطقة القبائل، ونحن نقول لهم حذار ثم حذار". وفسّر هذه التخوفات تصريح الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية، وهي هيئة تتبع الرئاسة، الهاشمي عصاد، الذي اعتبر أن "هناك مناورات سياسية تستهدف إثارة الشغب في منطقة القبائل"، مشيراً إلى أن "البناء على ما حدث في البرلمان ينطوي على مناورة".

وأبدى اعتقاده بأن "الرفض المزعوم من قبل أعضاء من المجلس لتعديل يتضمن تعميم اللغة الأمازيغية وطابعه الإلزامي، تبيّن أنه خدعة مدبرة لاستغلالها لأغراض منافية لمثل اللغة الأمازيغية، التي هي الصرح المشترك لجميع الجزائريين وعامل أساسي للتماسك الاجتماعي". وأضاف أنه "نرفض هذه المناورات المغرضة التي تزرع البلبلة والارتياب، ما يشعل فتيل الغضب والاحتجاج في أجزاء من وطننا الكبير. والهدف من هذا الاستغلال المغرض هو القول إن هناك تعدّياً على اللغة الأمازيغية". ولفت إلى أن "خيبة أملنا لكبيرة كون هذا التدبير يحمل في طياته عواقب غير متوقعة، من شأنها أن تؤثر سلباً على استقرار البلد".

دعا البعض إلى الهدوء في هذه المرحلة (العربي الجديد)

ودعا عصاد إلى "الهدوء الذي يقتضيه الوضع الاجتماعي والسياسي للبلاد، فنحن مرة أخرى أمام محاولة لزعزعة مسار استكمال الإطار القانوني لتطبيق أحكام الدستور الذي يعزز اللغة الأمازيغية، بالشروط المناسبة لترقيتها ثقافياً ويوفر لها المقاربات والوسائل العلمية والأكاديمية المطلوبة لغوياً"، مشيراً إلى أن أطرافاً لم يسمها "ادّعت من باب زرع الخلط والبلبلة أن الميزانية المخصصة للغة الأمازيغية حتى قد تم تخفيضها، على الرغم من أن نمط تمويل ترقية اللغة الأمازيغية والمؤسسات الساهرة على ذلك يكذب هذا الادّعاء. ناهيك عن النجاحات السياسية والدستورية المسجلة لصالح اللغة الأمازيغية، بعد إقرارها كلغة وطنية في التعديل الدستوري عام 2005، ثم الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية ورسمية في دستور فبراير/ شباط 2016. وهي مكاسب هامة انتظرت أجيال عقوداً من النضال لتحقيقها". لكنه أقرّ بـ"وجود حيل وعراقيل للحيلولة دون الشروع في تعميم اللغة الأمازيغية في المجتمع، رغم أنه يتم تعليمها حالياً على مستوى 37 ولاية من مجموع 48 ولاية، ويدرسها 600 ألف تلميذ وطالب".

وعلى الصعيد الرسمي، تجنّبت الحكومة الجزائرية حتى الآن الدخول في جدال سياسي حول التطورات الراهنة في مدن منطقة القبائل. وفي غياب أي تصريحات لمسؤول حكومي حول الموضوع، أدلى وزير الشباب والرياضة الهادي ولد علي، يوم السبت الماضي، بتصريح حذّر فيه مما وصفه بـ"المحاولات التحريضية عبر شبكات التواصل الاجتماعي"، مشيراً إلى أن "الاعتراف بالأمازيغية وترقيتها من قبل الدولة قد يزعج البعض. وعلى شباب منطقة القبائل أن يكونوا يقظين كي لا يقعوا في حالة مأساوية كالتي عاشتها المنطقة من قبل. من المهم الحفاظ على الاستقرار والسلام وعلى أمن هذه المنطقة من الجزائر".

وقصد ولد علي الأحداث الدامية التي شهدتها منطقة القبائل في التسعينيات، وفي انتفاضة الربيع الأسود في إبريل/ نيسان 2001، مدافعاً عن الجهد الحكومي الرسمي في هذا الصدد. واعتبر أن "وزارة التربية والتعليم توظّف سنوياً معلمين لتدريس الأمازيغية باتجاه تعميم تدريس هذه اللغة في كل الجزائر، وتنظيم مهرجانات لترقية الثقافة الأمازيغية كالشعر والمسرح والسينما والتكوين الجامعي، وإنشاء المؤسسات اللازمة لتعزيز الأمازيغية".



وطالب بـ"سحب هذه القضية من النقاش السياسي، فالدولة الجزائرية التي عمدت إلى دسترة وإقرار اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية، لن تتراجع عن مسألة ترقيتها". ونفى أن "تكون الدولة بصدد التراجع عن تدريس اللغة والهوية الأمازيغية"، واصفاً "الشائعات التي تتحدث عن عدم رغبة الحكومة في إعطاء هذه اللغة التي يتحدث بها أعضاء الحكومة ورئيس الحكومة نفسه مكانتها اللازمة في جميع أنحاء البلاد"، بـ"الكاذبة". مع العلم أن ولد علي كان معارضاً وناشطاً سابقاً في الحركة البربرية الأمازيغية قبل انقلاب مواقفه وتحوّله إلى موالاة السلطة.

بدوره، قال الباحث المستقل في التاريخ والثقافة الأمازيغية محمد أرزقي فراد، إن "البرلمان تعامل بصورة غير مقبولة مع مقترح حزب العمال في شأن تعميم تدريس الأمازيغية". واعتبر أن الرفض "جزء من سياسات السلطة واستمرار لعدم وجود نية سياسية صادقة لتعميم الهوية واللغة الأمازيغية"، مبدياً اعتقاده بأن "السلطة لم تكن لها أبداً نوايا صادقة لإقرار اللغة الأمازيغية، ويجب أن نعلم أن الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، ثم كلغة رسمية، جاءا تحت ضغط الشارع ولتهدئة منطقة القبائل، لا تعبيراً عن تطور في العقل السياسي للسلطة".

وأضاف أرزقي فراد أن "القمع لن ينفع السلطة لو حاولت استعماله هذه المرة، كما لم تعد تملك الوسائل والأدوات التي تمكنها من شراء السلم المدني بسبب سياساتها غير الرشيدة من جهة، وفي ظل هيمنة الحركة من أجل استقلال القبائل التي تتبنى الطرح الأيديولوجي التغريبي الذي يضع الأمازيغية في مواجهة مع الإسلام والعربية على ساحة الفعل السياسي في المنطقة، من جهة ثانية".

في هذا السياق، لفت مراقبون إلى أن "تخريب السلطة في الجزائر للكيانات التمثيلية والأحزاب التقليدية المتمركزة في المنطقة وتتبنى مطالبها، وهي جبهة القوى الاشتراكية والتجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية، شرع الباب واسعاً أمام حركات متطرفة ومحاولات استغلال للأحداث والتطورات".



في هذا الصدد، قال الإعلامي المهتم بالقضية عمر لشموت، إنه "تبعاً لتراجع الأحزاب التقليدية في التكفّل بالمسألة الأمازيغية وتراجع تأطيرها الجماهيري، فإن الساحة باتت واسعة لعناصر أخرى تدرج المسألة الأمازيغية ضمن أجندة سياسية معينة، من بينها حركة ماك، والتي أعلنت عن حكومة منفى متمركزة في فرنسا، وتحاول استدراج الجماهير لخيارها".

أما الباحث رابح لونيسي، فاعتبر أن "المآلات والتطورات الراهنة تسببت بها السلطة، التي تلاعبت بمكوّنات الهوية الوطنية لإثارة حروب ثقافية في إطار سياسة فرّق تسد بين الجزائريين وإلهائهم، لكن دائماً ما تنفلت الأمور منها. وهذا هو الخطر الحقيقي". وأضاف أن "المناورة السياسية للسلطة كانت دائماً تستهدف إضعاف الأحزاب التقليدية في المنطقة، يتكرر اليوم ما حصل في أحداث 2001 عندما تم إضعاف الأحزاب السياسية والكيانات التمثيلية، فوجدت السلطة نفسها في مواجهة العروش (لجان شعبية تمثل الأحياء والمناطق)، واليوم تجد السلطة نفسها في مواجهة حركة ماك التي تدعو للحكم الذاتي بدعم أجنبي"، في إشارة منه إلى فرنسا التي تحتضن حكومة المنفى بقيادة فرحات مهني، ومملكة المغرب التي تحاول تشجيع هذه الحركة الانفصالية رداً على دعم الجزائر لجبهة البوليساريو.

زاد تفاعل مواقع التواصل الاجتماعي مع هذا الحراك الجديد من زخمه، الذي يحاول محركوه محاكاته مع حراك الريف في المغرب، من دون معرفة أين سينتهي الحراك الأمازيغي الجديد، وما إذا كانت الجزائر بصدد إشعال جدل جديد يعيد صراع الهويات. لكن مراقبين يبدون تخوفاً جدياً من تطور الأحداث في 12 يناير/ كانون الثاني المقبل، بعدما قررت السلطات تنظيم الاحتفال الرسمي بالسنة الأمازيغية الجديدة في مدينة تيزي وزو، عاصمة منطقة القبائل.


وسبق أن مرّ الحراك الأمازيغي في الجزائر بمحطات عدة، بدءاً من 20 إبريل 1980، حين اندلعت احتجاجات وتظاهرات صاخبة، كانت الأعنف منذ استقلال الجزائر في يوليو/ تموز 1962، بسبب منع السلطات الجزائية للأديب الناشط في الحركة الأمازيغية البربرية، مولود معمري، من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو، حول الشعر الأمازيغي بعد إصدار الأديب لكتاب "الشعر القبائلي القديم". وفي عام 1994، أضرب التلاميذ لفترة طويلة للمطالبة بتدريس اللغة الأمازيغية. وفي عام 1995، تمّ إنشاء "المجلس الأعلى للغة الأمازيغية"، وبدأ تدريس اللغة الأمازيغية في ولايات عدة.

وفي إبريل 2001 وقعت احتجاجات عنيفة استمرت أسابيع عدة، إثر مقتل الشاب ماسينيسا قرماح في مدينة تيزي وزو، كما قُتل خلال تلك الأحداث 127 شاباً. وقرّر على أثرها حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الذي كان يشارك في الحكومة، سحب وزرائه منها. وفي 14 يونيو/ حزيران 2001 نُظّمت مسيرة مليونية نظمتها حركة العروش من مدن منطقة القبائل باتجاه العاصمة الجزائرية. ومع نهاية عام 2001، بدأت المفاوضات بين الحكومة وتنسيقية عروش القبائل، وتمّ تقديم لائحة مطالب ضمّت 14 بنداً، أبرزها الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية. وفي عام 2002 حققت الأمازيغية أكبر مكسب سياسي في الجزائر، مع إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية، التي باتت نصاً دستورياً في فبراير/ شباط 2016.

تُجدر الإشارة إلى أن 4 كتل سكانية في الجزائر تتحدث باللغة الأمازيغية. وتتمركز الكتلة الأكبر في منطقة القبائل التي تضم محافظات تيزي وزو وبجاية والبويرة، والكتلة الثانية المعروفة بـ"الشاوية" في محافظات باتنة وخنشلة وأم البواقي، شرقي الجزائر، وكتلة الطوارق تتمركز في مناطق الجنوب بتمنراست واليزي، وكتلة بني ميزاب، وهم الأمازيغ التابعون للمذهب الأباضي، فيتركزون في غرداية، وسط الجزائر.