عامان على "مقتلة" الفلوجة: لا مكان للأحياء ولا للموتى

عامان على "مقتلة" الفلوجة: لا مكان للأحياء ولا للموتى

27 أكتوبر 2015
الفلوجة بين نيران "داعش" والمليشيات (حيدر محمد علي/فرانس برس)
+ الخط -
تقترب مدينة الفلوجة العراقية من إتمام عامها الثاني خارج سيطرة الدولة العراقية، بعد فشل 32 حملة عسكرية شنتها القوات العراقية والمليشيات المساندة لها، لاستعادتها؛ من ضمنها خمس حملات تمت بمشاركة الحرس الثوري الإيراني، لكن دون جدوى، إذ يحكم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) سطوته على المدينة الواقعة على نهر الفرات غرب العاصمة بغداد بنحو 55 كيلومترا.

اقرأ أيضاً: السيستاني يدعو المليشيات العراقية للحفاظ على أرواح المدنيين 

وفي ظل استمرار سيطرة التنظيم على المدينة، يستمر نزيف الدم اليومي في صفوف السكان الذين يقبعون تحت إقامة جبرية يفرضها "داعش" عليهم، إذ يمنعون من الخروج منها، فيما تستقبل مقابرها يومياً ضحايا جددا يلقون حتفهم بفعل القصف بالبراميل أو الصواريخ التي تشنها قوات النظام والمليشيات المسلحة المعروفة باسم "الحشد الشعبي". 

ويقدر عدد المدنيين بمدينة الفلوجة اليوم بنحو مائة ألف مدني، من أصل 900 ألف نسمة من سكان المدينة نجحوا في الخروج مع بداية سيطرة التنظيم عليها. وعلى الرغم من دخول حصار المدينة شهره السابع من جهاتها الأربع، إلا أن السكان نجحوا في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية عبر الزراعة. لكن يبقى الدواء والمشتقات النفطية، مشكلة المدينة التي طالما شكلت علامة فارقة في الأحداث بعراق ما بعد الاحتلال.

وأصدرت السلطات الصحية في المدينة بياناً أكدت فيه ارتفاع عدد ضحايا المدنيين في المدينة إلى نحو عشرة آلاف مدني، 54 في المائة منهم نساء وأطفال، مؤكدة حاجتها إلى افتتاح مقبرة جديدة بعد امتلاء ثلاث مقابر تم افتتاحها خلال العامين بالمدينة. 

اقرأ أيضاً: العراق: مقبرة جديدة تفتتح شهرياً مع ازدياد القتلى

وقال الدكتور فاضل علي من دائرة الصحة بالمدينة لـ"العربي الجديد" إن "عدد الضحايا بلغ حتى فجر الإثنين (أمس) 3 آلاف و371 مدنيا من بينهم 1543 طفلا وامرأة، فيما بلغ عديد الجرحى ستة آلاف و123 مدنيا، من بينهم أكثر من ثلاثة آلاف طفل وسيدة".

وأضاف علي أن "غالبية الضحايا قضوا في منازلهم بفعل القصف المتواصل على المدينة. ومع الأسف، فشلت جهود الأمم المتحدة في إيقاف القصف أو إخراج المدنيين، كما فشلت في إدخال مساعدات، إذ ترفض الحكومة إدخال أي مواد غذائية او إنسانية للمدينة.

في ظل هذه الظروف، يجتهد السكان لابتكار طرق مختلفة تقيهم من القصف اليومي على منازلهم، كحفر خنادق داخل منازلهم، أو ملء أكياس رمل ونشرها على سطوح المنازل للتخفيف من القصف في حال سقط أحد الصواريخ على المنزل.

ويقول المواطن أحمد حسين (34 عاماً) لـ"العربي الجديد": "مللنا الحياة. منذ عامين لم نعد نشعر بها. نتوقع أننا سنموت بأي لحظة. نسينا الابتسامة؛ فالمليشيات والحكومة تمعن في سفك دمائنا؛ وهم يعلمون (القوات الحكومية) أن (داعش) لا يتواجد في المدينة بل عند أطرافها، وفي الأحياء السكنية المحيطة بالفلوجة. لكنهم رغم ذلك، يقصفون السوق والمدرسة والمستشفى والمنزل، وكلها سواء لديهم ما دامت تقتل من في الفلوجة"، على حدّ تعبيره.

ويضيف "حفرت خندقاً صغيراً في غرفة المعيشة، عبارة عن حفرة بطول ثلاثة أمتار وعمق مترين، وقمت بفرشها وننزل بها أنا وزوجتي وطفلاي (عادل وجمال خمس وست سنوات) ونبقى فيها لحين توقف القصف، الذي يبدأ يومياً بوقت معتاد، وهو ما يجعلنا نتأكد أن القصف متعمد وعشوائي، وليس بناء على معلومات كما يزعم قادة الجيش وزعماء المليشيات".

ويتخذ جاره سعيد عاطف ( 50 عاماً)، وسيلة أقل أمناً من خلال نشر أكياس الرمل على سطح منزله بسماكة 30 سنتيمتراً، مؤكداً أنها تقي من القذائف والصواريخ، إذ عادة ما ينفجر الصاروخ او القذيفة عند ارتطامه بالأكياس، ولا يخترق السقف. فيما يبدو المنزل الثالث المجاور لهما فارغاً، بسبب قصف جوي أدى إلى مقتل الجار وزوجته وأطفاله مطلع الشهر الماضي. 

ويشكو مدير طوارئ مستشفى الفلوجة، أحمد الشامي، هو الآخر من القصف على المستشفى ونقص الكوادر الطبية والأدوية والعلاجات اللازمة. ويقول لــ"العربي الجديد" إن "العمل الطبي والصحي بات تطوعياً وإنسانياً أكثر من كونه وظيفة بالنسبة لجميع من في مستشفى الفلوجة التي تعاني هي الأخرى من قصف شبه أسبوعي".

ويضيف "ليس لدينا علاجات لغالبية الحالات المرضية، وكذلك الإسعافات الأولية وسيارات الإسعاف؛ وغالبية حالات الجرحى ينقلها المدنيون، وليس لدينا حتى لقاحات تطعيم الأطفال، ما ساهم بانتشار الأمراض والأوبئة علاوة على القصف العشوائي المستمر".

بدوره، يرى عضو جبهة الحراك الشعبي العراقية الشيخ محمد عبد الله أن "المواطنين داخل المدينة يعانون الجوع والمرض والخوف من مصير مجهول". ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "القصف في الفلوجة يستهدف الأحياء السكنية للمدنيين دون (داعش)"، وإن "عدد ضحايا الفلوجة الذين يسقطون يومياً يفوق عدد عناصر التنظيم في العراق بعشر مرات".

 وفي السياق، يقول ضابط برتبة نقيب يعمل في جهاز استخبارات الجيش لـ"العربي الجديد" إن "أوامر قصف قضاء الفلوجة لا تصدر عن رئاسة الوزراء ولا عن وزارتي الدفاع والداخلية، بل لا تصدر عن قيادات الجيش في محافظة الأنبار والمتمثلة بقيادة الفرقة السابعة وقيادة البادية والجزيرة". وحول من يصدر هذه الأوامر، يجيب "هذه الأوامر تصدر من ضباط تم تعيينهم من قبل مؤسسات وأحزاب ترتبط بدولة مجاورة، ولا تمتثل للأوامر العراقية، وإن صدرت من قبل رئيس الوزراء شخصياً".

ويضيف النقيب "نحن بصفة رسمية وكمؤسسة عسكرية استخباراتية نقوم بجمع التقارير اليومية حول جميع الانتهاكات من سقوط ضحايا وعنف ضد المواطنين، ونرفع تلك التقارير إلى قسم المعلومات في وزارة الدفاع، وهي بدورها تتخذ الإجراءات اللازمة حول تلك الانتهاكات. ولكن كما أسلفت أن أولئك الضباط الذين يحاصرون الفلوجة الآن لا يأبهون للأوامر الصادرة من الحكومة العراقية لارتباطهم الحزبي والمذهبي بإحدى الدول المجاورة"، بحسب تعبيره.

ووسط هذا الكم الهائل من القتلى والجرحى تتعالى صرخات الاستغاثة من قبل أهالي الفلوجة يومياً، وسط تعتيم إعلامي وصمت حكومي وجو مشحون داخلياً من قبل تنظيم "داعش"، ومكهرب خارجياً بأسلاك الجيش و"الحشد الشعبي"، التي تصعق الخارجين من المدنيين وتمنع الداخلين لعزل المدنيين في الفلوجة عن العالم الخارجي، وتركهم يعانون الظلم والجوع ونقصا في الأموال والأنفس والثمرات.