نازيّو ألمانيا: خطة انقلاب

نازيّو ألمانيا: خطة انقلاب

08 ديسمبر 2022
شارك نحو 3 آلاف عنصر أمن في المداهمات أمس (عبد الحميد هوسباس/الأناضول)
+ الخط -

لم يعد الحديث عن تزايد زخم ونشاط اليمين المتطرف في ألمانيا، مجرد كلام تتناقله وسائل إعلامية أو منظمات حقوقية، أو تشير له السلطات بين حين وآخر، بل تحوّل إلى واقع يهدد أسس الدولة الألمانية، لما يكتنفه من عنف مسلح في نشاط المجموعات التي تتبنى هذه التوجهات، والتي وصلت حد التخطيط لانقلاب على الدولة واستبدال النظام القائم في البلاد.

فبعض التفاصيل التي كشفتها العملية الضخمة للشرطة الألمانية أمس الأربعاء، والتي استهدفت أعضاء في حركة "مواطني الرايخ" (رايخسبرغر) خططوا لاقتحام البرلمان الألماني مع مجموعة مسلحة، يكشف تصاعد خطر هذه الجماعات التي استفادت من مجموعة تطورات في السنوات الأخيرة لنشر خطابها، من أزمة تفشي وباء كورونا، وتزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين في أوروبا، إلى تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، والاتهامات الموجّهة للاتحاد الأوروبي، مع ترويج "نظرية مؤامرة" باتت تجد متلقين كثرا لدى جمهور يزداد تشكيكه بمؤسسات الحكم التقليدية. ويشترك "مواطنو الرايخ" (رايخسبرغر) في رفض وجود جمهورية ألمانيا الاتحادية. وهم لا يعترفون بمؤسساتها ولا يطيعون الشرطة.

وإذا كانت الحركات المتطرفة قد وجدت في سنوات حكم دونالد ترامب في الولايات المتحدة، صدى لصوتها لدى جماعات أميركية وقفت خلف ترامب علناً، بل تحركت تلبية لندائه عبر اقتحام الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021، أبرزها مجموعة "كيو أنون"، فإنها لا تزال تسمع من موسكو صوتاً مندداً بمؤسسات الحكم الأوروبية، هو الرئيس فلاديمير بوتين، الذي تُوجه أصابع الاتهامات له بشكل دائم بدعم الجماعات اليمينية المتطرفة في الغرب الأوروبي، لتسارع السلطات الروسية أمس الأربعاء لنفي علاقتها بما يحصل في ألمانيا، قبل توجيه أي اتهام لها حتى.

إحباط محاولة انقلاب

واستيقظت ألمانيا أمس الأربعاء على عمليات دهم واسعة، شارك فيها حوالي 3 آلاف ضابط وعنصر بما في ذلك وحدات النخبة لمكافحة الإرهاب، وشملت تفتيش أكثر من 130 عقاراً، في 11 من أصل 16 ولاية ألمانية، في عملية وصفتها وسائل إعلام ألمانية بأنها إحدى أكبر إجراءات الشرطة في البلاد على الإطلاق ضد المتطرفين.

واستهدفت عمليات الدهم أعضاء مفترضين في حركة "مواطني الرايخ" يشتبه في "قيامهم باستعدادات ملموسة لاقتحام البرلمان الألماني بعنف مع مجموعة صغيرة مسلحة"، على ما جاء في بيان للمدعين الألمان، ليتم الإعلان عن توقيف 25 شخصاً، اثنان منهم أوقفا في النمسا وإيطاليا.

استهدفت عمليات الدهم أعضاء مفترضين في حركة "مواطني الرايخ" يشتبه في قيامهم باستعدادات ملموسة لاقتحام البرلمان الألماني

وذكرت مجلة "دير شبيغل" أن المواقع التي تم تفتيشها تشمل ثكنات وحدة القوات الخاصة الألمانية (كيه اس كيه) في بلدة كالو جنوب غربي البلاد. وكانت الوحدة قد خضعت في السابق لتدقيق بشأن مزاعم انتماء بعض الجنود لليمين المتطرف.

وقال ممثلو الادعاء الفيدراليون في بيان إن المداهمات استهدفت أفراداً مشتبهاً في أنهم "قاموا باستعدادات ملموسة للدخول بعنف إلى البرلمان الألماني مع مجموعة مسلحة صغيرة". وأضافوا أن المعتقلين متهمون بتشكيل "مجموعة إرهابية بحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على أبعد تقدير، والتي حددت لنفسها هدف التغلب على نظام الدولة القائم في ألمانيا واستبداله بنوع الدولة الخاص بها". وقالوا إن "المتهمين يجمعهم الرفض العميق لمؤسسات الدولة والنظام الأساسي الديمقراطي الحر لجمهورية ألمانيا الاتحادية".

وقال ممثلو الادعاء في كارلسروه إنهم تعرفوا على 27 شخصاً آخرين، على أنهم أعضاء مشتبه فيهم أو مؤيدون للشبكة الإرهابية. وكجزء من الاستعدادات للانقلاب، حصل أعضاء الخلية على أسلحة ونظموا تدريبات إطلاق نار وحاولوا تجنيد أتباع جدد، لا سيما في صفوف الجيش والشرطة، بحسب الادعاء. وأضافوا أنه يعتقد أن جنوداً سابقين من بين أعضاء الجماعة الإرهابية التي تم تأسيسها أخيراً.

وبحسب المدعين، كانت هذه الشبكة "مدركة أنه سيكون هناك أيضاً وفيات" في خطتها للقضاء على النظام الديمقراطي، غير أنّ "هذه خطوة تعتبر ضرورية" لتحقيق "تغيير النظام". وأشار المدعون إلى أنهم حدّدوا تنظيماً منظّماً وهرَمياً للغاية يتألّف من "هيئة مركزية" و"ذراع عسكرية" مسؤولة عن شراء معدّات لتدريب المجنّدين على الأسلحة، وأيضاً من لجان "عدل" و"شؤون خارجية" و"صحة". كما أنّ هناك جنوداً سابقين بين مناصري هذا التنظيم.

وأفادت وزارة العدل بوجود قائدَين مفترضَين للمجموعة. وحدّدت الصحافة الألمانية الأول على أنه الأمير هاينريخ الثالث عشر رويس، المتحدّر من سلالة ملوك ولاية تورينغن الإقليمية (شرق البلاد)، وهو رجل أعمال سبعيني نأى جزء من عائلته بنفسه عنه. واعتُقل في فرانكفورت، وكان يملك قصراً تمّ اقتحامه قرب باد لوبنشتاين وسط البلاد. وبحسب التسريبات، كانت الخلية تخطط لتعيين رويس كزعيم جديد لألمانيا بعد الانقلاب.

وقال ممثلو الادعاء إن رويس سعى بالفعل لإجراء اتصالات مع المسؤولين الروس لمناقشة "نظام الدولة الجديد" في ألمانيا بعد الانقلاب. ومع ذلك "لم يكن هناك ما يشير إلى أن مسؤولي الاتصال استجابوا لطلبه". وأضاف المدعون أن امرأة روسية تُدعى فيتاليا ب.، والتي كانت من بين المعتقلين أمس، يشتبه في أنها سهلت تلك الاتصالات.

رويس سعى لإجراء اتصالات مع المسؤولين الروس لمناقشة "نظام الدولة الجديد" في ألمانيا بعد الانقلاب

أما الثاني، فقد أشارت الصحافة الألمانية إلى أنه مقدّم سابق في الجيش الألماني، وكان قائد كتيبة مظلّيات في التسعينيات ومؤسّس وحدة في القوات الخاصة الألمانية (كيه اس كيه)، واضطرّ إلى مغادرة الجيش في نهاية التسعينيات بعدما خرق قانون الأسلحة. وبحسب الادعاء الألماني، كان المخطط بأن يتم تنصيب هذا الضابط قائداً للذراع العسكرية للدولة.

من جهتها، أكدت الشرطة الإيطالية في بيان أنها اعتقلت ضابطاً سابقاً في الجيش الألماني يبلغ من العمر 64 عاماً. وقالت الشرطة إن الرجل اعتُقل في فندق في وسط مدينة بيروجيا، حيث جرى العثور على "مواد ذات صلة بالنشاط الهدام" للمنظمة.

كما أشارت الصحافة الألمانية إلى أن الاعتقالات شملت النائبة السابقة عن حزب "البديل" الألماني اليميني المتطرف، بيرجيت مالزاك وينكمان، والتي كانت عضواً في البرلمان بين 2017 و2021. فيما تحدثت تسريبات أخرى عن أن التوقيفات شملت جنوداً ناشطين حالياً في الجيش.

من جهتها، ذكرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيسر أنّ التحقيقات ترفع الغطاء عن "هاوية تهديد إرهابي". وأضافت أنّ الخلية المفكّكة كانت "مدفوعة بأوهام الإطاحة العنيفة والأيديولوجيات التآمرية".

وقالت فيسر يبدو أن هناك "ذراعين تنظيميين لهذه المنظمة نفسها: مجلس، وذراع عسكري، وهذا يظهر بالفعل خطورة هذه المنظمة الإرهابية". وشددت على أن "الدولة الدستورية قوية ويجب أن نقف بكل قوتنا ضد أعداء الديمقراطية".

أما وزير العدل ماركو بوشمان فأشاد على "تويتر" بتفكيك "الخلية الإرهابية المشتبه بها"، قائلاً إنها تظهر أن ألمانيا قادرة على الدفاع عن ديمقراطيتها. ووصف الوزير المداهمات بأنها "عملية لمكافحة الإرهاب"، مضيفاً أن المشتبه بهم ربما خططوا لشن هجمات مسلحة تستهدف مؤسسات الدولة.

وسارعت السفارة الروسية في برلين لنفي أي علاقة مع مجموعات "إرهابية" من اليمين المتطرف في ألمانيا. وقالت في بيان نقلته وكالات أنباء روسية "إن المكاتب الدبلوماسية والقنصلية الروسية في ألمانيا لا تقيم اتصالات مع ممثلي جماعات إرهابية أو كيانات غير شرعية أخرى".

كما وصف الكرملين عمليات التوقيف بأنها "قضية ألمانية داخلية". وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحافيين "قالوا بأنفسهم إنه لا يمكن أن يكون هناك أي نقاش عن تدخل روسي من أي نوع".

خطر عنف اليمين المتطرف

ويعيد هذا التطور الأنظار إلى عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، والذي صنّفته السلطات في السنوات الأخيرة باعتباره من التهديدات الأولى للنظام العام، قبل الخطر الجهادي. وفي الربيع الماضي، فكّكت السلطات مجموعة يمينية متطرّفة أخرى يُشتبه في أنها خططت لهجمات في البلاد ولخطف وزير الصحة، ربطاً بإجراءات مكافحة كوفيد.

كما تُبرز الاعتقالات أمس اسم حركة "رايخسبرغر" (مواطني الرايخ)، التي يشترك أعضاؤها في رفض نظام الدولة، ولا يعترفون بمؤسساتها ولا يطيعون الشرطة، كما أنهم لا يدفعون الضرائب.

فكّكت السلطات في الربيع الماضي مجموعة يمينية متطرّفة أخرى يُشتبه في أنها خططت لهجمات في البلاد

هذه الحركة تنكر حصول المحرقة "هولوكوست" وفيها عدد من الأعضاء الذي ينحون للعمل العنفي. وأشارت النيابة الألمانية إلى أنه في ما يتعلق بالمجموعة التي جرى تفكيكها أمس، فإنّ اعضاءها يستندون أيضاً إلى نظريات "كيو أنون"، وهي مجموعة يمينية متطرّفة تآمرية في الولايات المتحدة.

وبحسب النيابة، "هم مقتنعون تماماً بأن ألمانيا يديرها حالياً أعضاء ما يسمى الدولة العميقة"، وأنّ "التدخّل الوشيك لـ"التحالف" (Alliance) وهي جمعية سرية متفوّقة تقنياً تجمع بين الحكومات وأجهزة الاستخبارات الأمنية والعسكريين من مختلف البلدان، بما في ذلك الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأميركية"، سيؤدي إلى "التحرير".

نازيون جدد ومنظّرو المؤامرة

وتضم حركة "مواطني الرايخ" النازيين الجدد ومنظري المؤامرة والمتحمسين للسلاح الذين يرفضون شرعية الجمهورية الألمانية الحديثة. ويؤمن أتباعها عموماً بالوجود المستمر للرايخ الألماني أو الإمبراطورية قبل الحرب العالمية الأولى في ظل نظام ملكي.

وتقدر المخابرات الألمانية الداخلية أن هذه المجموعة تتكون من حوالي 20 ألف شخص، ومن بين هؤلاء، يُعتبر أكثر من ألفين عنيفين. وهذه الحركة ترفض وجود جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتصف الجمهورية الفيدرالية بأنها "مؤامرة صهيونية - ماسونية"، ويرى بعض أفرادها أن الحكومة الألمانية تخضع لسيطرة قوى صهيونية. وتصرّ على أن حدود الإمبراطورية الألمانية لعام 1937 أو 1871 لا تزال موجودة، وأن الدولة الحديثة بناء إداري لا يزال محتلاً من قبل قوات الحلفاء.

لا يعترف "مواطنو الرايخ" بمؤسسات الدولة الألمانية، ولا يطيعون الشرطة، ولا يدفع هؤلاء ضرائب ولا رسوم ضمان اجتماعي، وهم يصدرون بطاقات هوية لأنفسهم ويعيدون تصميم لوحات تسجيل سياراتهم.

تقدر المخابرات الألمانية الداخلية أن مجموعة "مواطني الرايخ" تتكون من حوالي 20 ألف شخص

يعتقد "مواطنو الرايخ" أن الحكومة، والبرلمان، والسلطتين القضائية والأمنية مجرد دمى تعيّنها وتديرها جهات خارجية. تنظر الحركة إلى دولة "الرايخ الألماني" (الاسم الرسمي لألمانيا بين عامي 1871 و1945) باعتبارها الدولة الألمانية الشرعية الوحيدة، وأنها محتلة من قبل قوات أجنبية منذ الحرب العالمية الثانية، ويعتقد أعضاؤها أنه نظراً لأنه لم تكن هناك معاهدة سلام رسمية، فإن الاحتلال مستمرّ حتى اليوم.

يتركز أعضاء الحركة في الجزء الجنوبي والشرقي من ألمانيا، وبدأت الاستخبارات الداخلية بتتبعهم بعد واقعة قتل شخص ينتمي إلى هذه الحركة لضابط ألماني تابع لوحدة شرطية خاصة، وذلك في التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2016.

وذكرت منصة "عين أوروبية على التطرف" في تحليل لها عن الحركة نشرته في مايو/أيار 2019، أن أجهزة الأمن الألمانية ووكالات إنفاذ القانون، وكذلك النخبة السياسية، نظرت إلى الحركة باعتبارها جماعة صغيرة، لا تشكل تهديداً. غير أن هذه النظرة قد تغيّرت بعد حادثة 2016، التي أدت إلى تغيير الطريقة التي تنظر بها وكالات إنفاذ القانون إلى الحركة، وبدأت تراقب أعضاءها بشكل أكثر صرامة.

وبحسب تقرير لـ"المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات"، فإن السلطات الألمانية تشعر بالقلق من امتلاك حركة "مواطني الرايخ" الأسلحة، وفي حال كانت الأسلحة مصرح بها قانونياً، لذا حاولت السلطات سحب ملكية السلاح من "مواطني الرايخ" حيثما كان ذلك ممكناً قانونياً. لكن نظراً لأن هؤلاء الأشخاص يرفضون النظام القانوني، فعادة لا يوثقون امتلاكهم للسلاح.

وكانت السلطات في ألمانيا تُتهم بالتقليل من شأن التهديد الذي تمثله هذه الجماعات. ففي عام 2017 وثق جهاز المخابرات المحلية الألماني للمرة الأولى جرائم المتطرفين التي ارتكبها أحد أعضاء الحركة، ومنذ ذلك الحين، كانت هناك عدة مداهمات على أهداف "مواطني الرايخ".

وأظهرت إحصائيات للمكتب الفيدرالي للشرطة الجنائية الألمانية، وفقاً لما أوردته صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، في يونيو/حزيران 2021، زيادة زخم اليمين المتطرف، وأشارت التقديرات يومها إلى وجود نحو 33300 شخص في عداد الجناح اليميني المتطرف، بينهم نحو 13300 أكثر عنفاً.

لكن على الرغم من خطورة هذه الجهات، فإن الحكومة الألمانية لم تقم بما يكفي لمحاربة التطرف اليميني في البلاد، وفق منظمات حقوقية. وأصدرت مؤسسة "أماديو أنطونيو"، و"مؤتمر منظمات المهاجرين"، و"مجموعة حقوق الإنسان"، بياناً مشتركاً أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أكدت فيه أنّ اليمين المتطرف وجماعاته يشكلان "أكبر تهديد للديمقراطية والأمن في ألمانيا".

وأوضحت أنّ "الأخطار التي تشكلها الدعاية اليمينية المتطرفة والعنف لم تتناقص، بل على العكس من ذلك زادت"، مشيرة إلى هجمات في الفترة الأخيرة على ملاجئ اللاجئين كأبرز مثال على ذلك.

(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)

المساهمون