قرر الرئيس التونسي قيس سعيد فجأة المشاركة في القمة الأفريقية الأوروبية التي انعقدت في العاصمة البلجيكية بروكسل بين 12 و15 فبراير/شباط الحالي.
والمعروف عن الرئيس التونسي أنه قليل السفر، لا يرغب كثيراً في حضور المؤتمرات الدولية أو الإقليمية، كما أنه نادراً ما يستجيب للدعوات التي توجه له.
قيس سعيّد في بروكسل بلا ملفات جاهزة
لكن في ضوء استمرار الحكومات الغربية، ولا سيما من خلال مجموعة الدول السبع، في توجيه انتقادات للرئاسة التونسية حول مسألة الحريات، خصوصاً بعد حل المجلس الأعلى للقضاء، وتلويح الاتحاد الأوروبي بربط المساعدات المالية بملف حقوق الإنسان، قرر قيس سعيّد مواجهة هؤلاء مباشرة.
الدبلوماسية في عهد سعيّد تمر بتقلبات غير معهودة
انتقل الرئيس التونسي إلى بروكسل لتنظيم لقاءات مع عدد من الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين، في محاولة منه لإقناعهم بعدم تعارض الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها مع الديمقراطية.
لكن يكاد يجمع المهتمون بالشأن التونسي، داخلياً وخارجياً، على أن الدبلوماسية في عهد سعيّد تمر بتقلبات غير معهودة، قد تؤدي إلى نتائج وخيمة خلال المرحلة المقبلة.
كما يوجد شعور لدى قطاع واسع من السياسيين، وكذلك العديد من السفراء التونسيين السابقين، بأن السياسة التي ينتهجها حالياً رئيس الدولة في إدارته للشأن المحلي، لا يمتلك القوة والوسائل الضرورية التي تمكنه من الدفاع عنها والالتزام بها عملياً. كذلك يعتبرون أنها قد تضع البلاد في سياق متعارض مع التزامات تونس الدولية.
ومن شأن ذلك أن يعرّض البلاد إلى هزات قوية، وربما عقوبات محتملة لا يستطيع الاقتصاد التونسي تحملها في هذا الظرف الصعب. ما يُعاب على الرئيس أنه توجه إلى العاصمة البلجيكية من دون ملفات جاهزة واستعداد مسبق، مكتفياً بإجراء محادثات شفوية مع عدد من المسؤولين الأوروبيين والأفارقة.
كما ظنّ سعيّد بأن الخطاب الذي يعتمده باستمرار في الداخل لتبرير إجراءاته المثيرة للجدل، وآخرها حل المجلس الأعلى للقضاء، سيكون مقنعاً وحاسماً لدى كل من التقى بهم خلال في هذه القمة.
اعتبرت الجهات الرسمية أن الزيارة كانت ناجحة، وأن اللقاءات التي أجراها قيس سعيّد كانت كافية لنسف ادعاءات المعارضة بأن تونس تواجه عزلة دولية متزايدة.
الأزمة الاقتصادية والمالية في تونس تتعمّق
عملياً، لا تزال الأزمة المالية قائمة ومستمرة، كما أن الحكومة تتحرك بصعوبة شديدة لتوفير الحاجيات الأساسية للمواطنين. كذلك، لا يزال خبراء الاقتصاد في الداخل والخارج يؤكدون على أن تونس تتجه بخطى ثابتة نحو الأسوأ.
وهذا ما تتضمنه التقارير التي تصدرها منظمات المجتمع المدني، آخرها تقرير "بودن ميتر" الذي أعدته منظمة "أنا يقظ"، والخاص بتقييم حصيلة فترة نجلاء بودن بعد توليها رئاسة الحكومة لمدة أربعة أشهر، إذ تم التأكيد على أن الحكومة "لم تحقق أي وعد من الوعود التي التزمت بها عند توليها مهامها".
يدرك سعيّد أن عجلة الاقتصاد لا تتحرك بالنسق المطلوب، لكنه يبرر ذلك بإلقاء المسؤولية على الحكومات السابقة التي كان يتولاها خصومه اليوم.
فعند لقائه الأخير بنائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فريد بلحاج، أعلمه بتشكيل لجنة للتحري بشأن المساعدات التي تلقتها تونس من قبل مؤسسات التمويل الدولية، بما في ذلك البنك الدولي.
وقال سعيّد إن جزءاً من هذه المساعدات استحوذ عليه "اللصوص" الذين كانوا يديرون شؤون الدولة، متهماً بذلك الأحزاب التي حكمت، وفي مقدمتها حركة النهضة.
لكن سعيّد فوجئ عندما أجابه نائب رئيس البنك الدولي بالقول، إنه "ليس هناك أي اختلاس للقروض طيلة السنوات العشر السابقة، والبنك يراقب كل مليم تم صرفه".
كما سبق أن طالب الرئيس التونسي نظراءه الأوروبيين بإعادة الأموال التي نهبها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وعائلته وأصهرته. فأجابه البعض ممن تحدث معهم في قمة بروكسل، بأن تونس لم تقدم الأدلة الكافية، ولم تقم بالإجراءات الضرورية.
كما أنّ الحكومات الغربية غير مستعدة لتسليم العناصر المتهمة بالاختلاس وتهريب الأموال، لأن القضاء التونسي "غير مستقل". وهو ما جعل الرئيس يعبّر عن استغرابه، ويقول إنه "حين أراد تطهير القضاء اعترضوا على ذلك، ورأوا بالأمر تدخلاً في السلطة القضائية".
قيس سعيّد لا يزال يرفض الحوار
أصبحت الصورة اليوم أكثر وضوحاً من أي فترة سابقة. الأزمة الاقتصادية الراهنة لن تتم معالجتها إلا من خلال التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وحتى يتحقق ذلك، يجب أن يحصل رئيس الدولة وحكومته على موافقة الاتحاد العام التونسي للشغل على الشروط والإصلاحات التي يطالب بها الصندوق.
يدرك سعيّد أن عجلة الاقتصاد لا تتحرك بالنسق المطلوب
قيادة الاتحاد من جهتها، أعلنت بوضوح عدم قبولها بالشروط المؤلمة، لكن القيادة النقابية ممثلة في أمينها العام نور الدين الطبوبي، الذي نجح في تأمين وضعه داخل الاتحاد، دعت رئيس الجمهورية إلى تعديل سياسته، والقبول بحوار وطني للتوصل إلى اتفاق على خطة من شأنها أن تؤمن المرحلة المقبلة، وتُخرج البلاد من المأزق الذي تعيش فيه.
لكن سعيّد لا يزال رافضاً لهذا الحل. ويرى الطبوبي أن المدخل لمعالجة الأزمة هو سياسي بامتياز، وأنه يعتمد على تنازل مشترك بين المعارضة التي ترى في إجراءات 25 يوليو/تموز الماضي التي اتخذها الرئيس انقلاباً على الدستور وعلى الدولة، وبين رئيس لا يزال مصراً على شطب المؤسسات وبناء نظام ومنظومة سياسية بديلة بطريقة أحادية.