حلّت الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجيش العراقي، التي احتفلت فيها البلاد أمس الأربعاء باستعراض عسكري كبير وسط بغداد، في ظل تحدٍ كبير يواجهه من المليشيات، التي تنافسه على الحضور والسيطرة على الأرض وجذب الشبان إليها، بعد عقود حافلة بالأحداث والمحطات كان الجيش فيها العنصر الأساسي في كل ما مرّت به بلاد الرافدين. لكنه يبقى العنصر الوحيد الذي يتفق جميع العراقيين على أهمية دعمه والاهتمام به.
وطيلة السنوات المائة منذ تأسيسه في 6 يناير/كانون الثاني 1921، واجه الجيش العراقي سلسلة حروب خارجية وداخلية، وزُجّ به في ميادين السياسة والانقلابات الدموية منذ منتصف القرن الماضي. في المقابل، سجّل علامات مضيئة في حروب التحرير العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ خاض معارك متتالية برية وجوية في الجولان السوري وسيناء المصرية وجبهة الأردن. وفي مدينة الخليل الفلسطينية، حيث خاض إحدى أبرز معاركه، اكتسب الجندي المنتسب إلى الجيش العراقي لقب "أبو خليل"، الذي لا يزال يرافقه لغاية الآن. وخاض الجيش العراقي حرباً ضد إيران (1980 ـ 1988)، خرج منها منتصراً. وفي عام 1990، زُجّ الجيش في عملية احتلال الكويت، التي انتهت بحرب الخليج عام 1991 بقيادة الولايات المتحدة، فخرج منهكاً من الحرب بخسائر كبيرة، أضعفت قدراته بنسبة تجاوزت الـ70 في المائة. وفي عام 2003 قُضي على المؤسسة العسكرية بقرار من الحاكم المدني بول بريمر القاضي بحلّ الجيش وتأسيس آخر بدلاً منه، إثر احتلال بغداد في 9 إبريل/نيسان 2003. مع العلم أن القوات العراقية قاتلت بشكل غير متكافئ ضد القوات الأميركية والبريطانية في البصرة وعلى أسوار العاصمة بين 20 مارس/آذار 2003 و9 إبريل منه، قبل حسم المعركة لصالح الاحتلال الأميركي.
في فلسطين اكتسب الجندي المنتسب إلى الجيش العراقي لقب "أبو خليل"
وكان التحدي الأخطر بعد ذلك هو احتلال تنظيم "داعش" مساحات شاسعة من البلاد عام 2014، حينها كان الجيش منهكاً بالفساد والتغلغل الطائفي الذي فرضته سياسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لكنه سرعان ما استعاد عافيته في السنوات الأخيرة بفعل الدعم الكبير الذي تلقاه، لا سيما في فترة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي 2014 ولغاية 2018. وحل الجيش العراقي في عام 2020 في المرتبة الـ50 عالمياً من أصل 138 جيشاً، في حين كان تصنيفه من بين أول 10 جيوش على مستوى العالم قبل احتلال الكويت عام 1990.
ووفقاً لمصادر عسكرية عراقية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، يبلغ تعداد الجيش حالياً نحو نصف مليون جندي، موزعين على 14 فرقة عسكرية منتشرة في مختلف مدن البلاد، باستثناء إقليم كردستان العراق. كما ارتفع عدد المقاتلات لديه لأكثر من 70 طائرة، من بينها 36 مقاتلة من طراز "أف 16" المطوّر، فضلاً عن نحو 20 مروحية قتالية. في المقابل، يراوح سلاحا الصواريخ والدفاع الجوي مكانهما مقارنة بدول الجوار، كالسعودية وإيران، لأسباب يصفها البعض بأنها سياسية وبضغوط أميركية، كون عقيدة الجيش العراقي ما زالت قائمة على أساس أن العدو هو الاحتلال الإسرائيلي. وهي العقيدة التي أرساها العراق بعد نكبة عام 1948، واستمرت مع كتابة الدستور الجديد عام 2005 الذي تنصّ المادة 201 منه، على الإعدام لمن يتورط في التواصل مع الكيان الصهيوني أو الترويج له أو دعمه مادياً أو معنوياً.
وعلى الرغم من انتصار الجيش العراقي في الحرب على تنظيم "داعش"، إلا أن هذا النصر فتح باب النار بينه وبين المليشيات المسلحة المرتبطة بإيران. فالمليشيات تجذب الشبان إليها بمحفزات عدة لا يملكها الجيش، ومنها الأموال ووسائل ترغيب أخرى. وتمارس المليشيات حرباً ناعمة وخفية ضد الجيش، عبر تسطيح دوره في أمن بعض المناطق، والترويج لأن الفصائل المسلحة في هيئة "الحشد الشعبي" تمتلك الخبرات الأفضل، وتقلّل عبر وسائل إعلامها من قيمة الجيش بصورة دائمة.
من جهته، ذكر مسؤول رفيع في ديوان وزارة الدفاع في بغداد، أن "تحدي الجيش في مئويته هو إثبات أنه القوة الأولى في العراق". وأضاف المسؤول في حديث لـ"العربي الجديد"، أن جهات مسلحة موالية لإيران أكثر من العراق، تسعى إلى تقزيم الجيش وجعله قوة ثانية وراءها. وهذا السعي لا يشمل فقط محاولات امتلاك المليشيات سلاحاً ثقيلاً ونوعياً، بل من خلال التغلغل في الجيش وتفتيته وبمساعدة سياسيين وأحزاب.
وكشف أن "قيادات في الجيش وشخصيات وطنية تعي هذا المخطط ويمكن اعتباره الأخطر الذي يهدد الجيش، وتقوده مليشيات لا يمكن أن تتحرك إلا بتوجيهات إيرانية، مثل كتائب حزب الله والعصائب والنجباء وبدر وغيرها". وشدّد على أن "وزارة الدفاع لا تتمتع بالقدر الكافي من الحرية في إصدار قراراتها، خصوصاً مع تنامي نفوذ الأحزاب الموالية لإيران داخل الوزارة، وتعيين أشخاص ليسوا عسكريين ضمن الجيش، يُطلق عليهم محلياً تسمية (ضباط الدمج)، ويؤثرون على مسيرة الجيش وسمعته". وأوضح أن "بعض الأحزاب والفصائل المسلحة، تزيد من دعم الأقسام الدينية في المؤسسات العسكرية في العراق، وزج أعداد كبيرة من رجال الدين في الغرف التي باتت تعرف باسم (التوجيه العقائدي)، وعقد ندوات لضباط الجيش والعساكر هدفها توجيه العناصر الأمنية دينياً وطائفياً نوعاً ما، وهو ما لا ينسجم مع أسس القوات العسكرية".
تحدي الجيش في مئويته هو إثبات أنه القوة الأولى في العراق
في السياق، قال المتحدث العسكري باسم الحكومة العراقية العميد يحيى رسول، لـ"العربي الجديد"، إن "المؤسسة العسكرية في العراق باتت قوية جداً بعد تحقيق النصر على تنظيم داعش في زمن قياسي، ويستحق الجيش كل الدعم الشعبي". وأوضح أن "كلية الأركان العراقية مستمرة بتخريج أمهر الأفراد الأمنيين والعسكريين المتشبعين بالروح الوطنية، لمواجهة كل التحديات المتمثلة في إنهاء ما تبقى من تواجد لعناصر داعش في بعض مدن البلاد، وملاحقة العصابات المنفلتة والإرهابيين. كما أن العمليات الأمنية التي يقوم بها الجيش حالياً ليست عادية، بل نوعية وتندرج ضمن أقوى المهارات الحربية في التصدي للخارجين عن القانون".
بدوره، رأى الباحث غيث التميمي، أن "الجيش العراقي هو أكبر القوى العسكرية في البلاد، ويحظى بدعمٍ شعبي واسع، على عكس قوات الشرطة الاتحادية والحشد الشعبي وغيرها من القوى التي تنسجم أحياناً مع التوجهات الدينية والسياسية لبعض قادة البلاد. ولكن المليشيات الموالية لإيران تحاول أن تستولي على القرار الأمني والعسكري للجيش، وتسخيف أدواره في كثيرٍ من الأحيان". وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تأسيس المليشيات، وتسليمها بعض الملفات الأمنية في العراق، يمثل إهانة للجيش العراقي، لأنه يسحب من تواجده في بعض المناطق. ويأتي هذا ضمن خطة لإضعاف الجيش وتنحيته عن المشهد، كما حصل مع الجيش الإيراني عقب تأسيس قوات الحرس الثوري والفيالق التابعة لرجال الدين في إيران".