البناء القانوني على تقرير "أمنستي"

البناء القانوني على تقرير "أمنستي"

27 فبراير 2022
يمكن الاستفادة من التقرير أمام الهيئات القضائية الدولية (أليان بيتون/Getty)
+ الخط -

لم تمض أشهر على صدور تقرير "هيومن رايتس ووتش"، الذي يتهم الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد بحق الشعب الفلسطيني، حتى صدر تقرير آخر من قبل "منظمة العفو الدولية" (أمنستي) بعنوان: "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية"، والذي يوثق عمليات الاستيلاء الهائلة على الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وأعمال القتل غير المشروعة، والنقل القسري، والقيود الشديدة على حرية التنقل، وحرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية، لتشكل كلها أجزاءً من نظام يرقى إلى مستوى الفصل العنصري بموجب القانون الدولي. ويتم الحفاظ على هذا النظام بفعل الانتهاكات التي تَبَيّن لمنظمة العفو الدولية أنها تشكل فصلاً عنصرياً وجريمة ضد الإنسانية كما هي مُعرّفة في نظام روما الأساسي والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها (اتفاقية الفصل العنصري).

يحاجج البعض بأن جريمة الفصل العنصري لا تقع إلا عند التمييز بين مواطني دولة واحدة، معتبرين أن المثال الأساس هو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. إلا أن هذه الحجة ينفيها تعريف جريمة الفصل العنصري في الاتفاقية الدولية لقمع ومعاقبة جريمة الفصل العنصري "أعمال غير إنسانية ارتكبت لغرض إنشاء وإدامة هيمنة فئة عنصرية من الأشخاص على أية مجموعة عرقية أخرى أو أشخاص وقمعهم بشكل منهجي". كما يعرفه ميثاق روما الأساسي في سياق الجرائم ضد الإنسانية "التي ارتكبت في سياق نظام مؤسسي قائم على القمع والسيطرة بصورة منهجية من جانب جماعة عرقية واحدة على أي مجموعات أو مجموعات عنصرية أخرى وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام".

إن ما يميز التقرير الأخير عن سابقه ليس فقط صدوره عن منظمة العفو الدولية التي تحظى باحترام وتقدير واسع عالميا، أو بسبب دورها الاستشاري في الأمم المتحدة، إنما بسبب إحيائه تقرير الاوسكوا، الذي تم سحبه ومنع نشره بسبب الضغوط الأميركية، كونه وصف جريمة الفصل العنصري الواقعة على الشعب الفلسطيني بمختلف أماكن تواجده (الأراضي المحتلة عام 1948، الضفة الغربية، قطاع غزة، القدس، وفي الشتات) رغم اختلاف شكلها من فئة إلى أخرى. كما يتميز تقرير "أمنستي" بتطرقه إلى جريمة التطهير العرقي ولو بشكل خجول.

وكما ذكر أعلاه تمارس العفو الدولية دورا استشاريا في الأمم المتحدة، وتعتبر تقاريرها مرجعية للكثير من الدول والهيئات الأممية، وكذلك حال منظمة هيومن رايتس ووتش التي تحظى باحترام وتقدير الكثير من الدول الداعمة للاحتلال، كالولايات المتحدة الأميركية أو الدول الأوروبية المستمرة بالتضييق على حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة اختصاراً (BDS)، من خلال سن تشريعات وقوانين تحد أو تجرم نشاطات الحركة. لذلك تساعد تقارير المنظمات المذكورة الحركة في معركتها القضائية ضد تلك التشريعات والقوانين فالاستشهاد بمثل هكذا تقارير خلال عملية التقاضي يحرج القضاء في تلك الدول ويعقد قدرته على إصدار أحكام ضد حركة المقاطعة. كما يمكّن الحركة من حشد الرأي العام الشعبي الداعم لها وتوسعته في تلك الدول.

إن الاستفادة من التقرير الأخير والتقارير السابقة له يتطلب توفر هيئات ومؤسسات قانونية فلسطينية ودولية داعمة للقضية، تعمل بشكل متناسق ومتناغم مع بعضها البعض مشكلة جسما قانونيا قادر على ملاحقة الأشخاص والمؤسسات المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، حيث يمكن له أن ينشط ويتحرك على مستويين قانونيين رئيسيين.

المستوى الأول: المحكمة الجنائية الدولية

يمكن الاستفادة من تقرير العفو الدولية الذي أوصى المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من الاحتلال، كما أوصاها بملاحقة المسؤولين والقائمين على جريمة الفصل العنصري. وهو ما ينسجم مع إعلان مدعية المحكمة العامة فاتو بنسودة في 20 /12 /2019 عن بدء التحقيق في "جرائم الحرب التي ارتكبت خلال النزاع الإسرائيلي الفلسطيني"، كما أكدت بنسودة في 30 /4 /2020 على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. لكن لم يتم إلى الآن ملاحظة خطوات ملموسة في التحقيق نتيجة عاملين، الأول بسبب الضغوطات التي مارستها الدول الداعمة للاحتلال، وفرض الإدارة الأميركية عقوبات على مدعية المحكمة العامة (فاتو بنسودة)، وصولا إلى استبدالها بالبريطاني كريم خان، الذي يعول الاحتلال على إماتته التحقيق بحكم العلاقات البنيوية التي تربط الاحتلال ببريطانيا. أما السبب الثاني فهو تقاعس سلطة رام الله عن القيام بمتابعة الملف، رضوخا لضغوطات الاحتلال. لذلك على الجسم القانوني والإعلامي الفلسطيني ممارسة ضغوط مباشرة على المحكمة وتقديم كل التوثيقات المطلوبة لإدانة الاحتلال، إضافة إلى ممارسة الضغوط اللازمة على سلطة رام الله، وفضحها وتعريتها بسبب تقاعسها عن أداء دورها في التعاون اللازم مع المحكمة ومتابعتها الحثيثة لكل عملية المحاكمة بدءاً من إجراء التحقيق. في حال المضي قدماً في التحقيق واستمرار الاحتلال رفض التعاون مع المحكمة سيدفعها إلى إصدار قرارات باعتقال المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين قد تتهمهم بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حيث يمكن أن تصدر المحكمة أوامر الاعتقال بشكل سري، مما يزيد من فرص اعتقال المسؤولين الإسرائيليين عند زيارتهم الدول الأعضاء المصادِقة على ميثاق المحكمة الدولية.

المستوى الثاني الولاية القضائية العالمية للقضاء الوطني

لقد تم التأكيد على أهمية الولاية القضائية العالمية ضمن توصيات تقرير منظمة العفو "ويجوز لجميع الدول أن تمارس الولاية القضائية العالمية على جميع الأشخاص الذين تتوفر مبررات معقولة للاشتباه في ارتكابهم جريمة الفصل العنصري، بينما يقع على عاتق الدول الأطراف في اتفاقية الفصل العنصري التزام بأن تفعل ذلك، بما في ذلك مقاضاة ومحاكمة ومعاقبة الأشخاص المسؤولين عن الجريمة. وهذا يعني أنه يجب على الدول، إذا ما قدمت إليها أدلة معقولة بأن شخصاً في نطاق أراضيها أو سيطرتها يشتبه على نحو معقول في مسؤوليته الجنائية، أن تبادر بإجراء تحقيقات جنائية فعالة ومحايدة على وجه السرعة، أو تبادر بتسليم المشتبه فيهم إلى ولاية قضائية أخرى لكي تتولى ذلك".

في الأصل المحاكم الوطنية في الدولة التي ارتكبت فيها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هي صاحبة الأولوية في ملاحقة ومحاكمة مرتكبي هذه الجرائم، إلا أن الوضع في فلسطين لا يسمح بتلك الملاحقة أو المحاكمة. ففي الأراضي المحتلة عام 1948 لا تقوم محاكم الاحتلال بملاحقة المجرمين، بل تعتبر المؤسسة العدلية جزءا لا يتجزأ من نظام الفصل العنصري، كما نص التقرير الأخير "وقد قبلت محاكم إسرائيلية أدلة منتزعة عن طريق تعذيب الفلسطينيين، وقبلت مبرر الضرورة. ومن النادر للغاية أن تجري السلطات الإسرائيلية تحقيقات وافية ومحايدة على وجه السرعة في ادعاءات الفلسطينيين بتعرضهم للتعذيب، وهو ما يمنح فعليا موافقة الدولة على جريمة التعذيب".

الفصل العنصري أعمال غير إنسانية ارتكبت لغرض وإدامة هيمنة فئة عنصرية على الآخرين

وأما محاكم السلطة الفلسطينية فيستحيل عليها ملاحقة ومحاكمة هؤلاء المجرمين، بسبب استمرار حالة الاحتلال لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، مما يغيب أي سيادة فلسطينية ومنها سيادة القضاء.

لذلك تُتيح الولاية القضائية العالمية للضحايا أو ممثليهم تجاوز عجز النظام القضائي المحلي، عن طريق تقديم شكاوى والسعي لفتح تحقيقات وتحريك دعاوى أمام محاكم الدول التي تتبنى قوانينها الولاية القضائية العالمية، التي يُمكن أن تحقق جزءاً من العدالة للضحايا. حيث يمكن أن تؤدي هذه الشكاوى إلى محاكمة المتورطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو اعتباريين. وهذا يتطلب مراكز قانونية قادرة على التعاون مع المنظمات القانونية في تلك الدول مدعومين بمراكز توثيق قادرة على جمع وتقديم الأدلة والبيّنات ضد مرتكبي الجرائم.

إن عمل الجسم القانوني الفلسطيني يحتاج بالضرورة إلى دعم إعلامي قادر على تغطية نشاطاته وتسليط الضوء على حالة التطهير العرقي ونظام الفصل العنصري القائم في فلسطين مما يمكنه من حشد الرأي العام الشعبي العالمي بإطار دعم القضية الفلسطينية وصولا إلى تفكيك نظام الفصل العنصري. ولا بد للفلسطينيين على اختلاف أماكن تواجدهم؛ كونهم المتضررين المباشرين وليس الوحيدين من بقاء هذا النظام؛ من العمل الشعبي المنسق فيما بينهم ليشمل كافة فئات الشعب الفلسطيني دون تهميش فئة أو تغليب فئة على أخرى، هذا التكامل والتكاتف الشعبي يضمن استمرار حالة النهوض الذي تعيشه القضية مؤخراً رغم إعاقة الجسم السياسي الفلسطيني لهذا النهوض وتحديداً بممارسته التنسيق الأمني الذي يضمن استمرار الهيمنة العنصرية للاحتلال وقمع الناشطين الفلسطينيين بأيد فلسطينية عميلة.

رغم ما تضمنه تقرير العفو من فضح الاحتلال الصهيوني كنظام فصل عنصري وتلميحه لممارسة الاحتلال جرائم تطهير عرقي ومن مطالبته الاحتلال إنهاء نظام الفصل العنصري، ومطالبة المجتمع الدولي (دولاً، ومنظمات، وشركات) بممارسة الضغط على الاحتلال وفرض العقوبات والمقاطعة. إلا أن المنظمة لم تطالب جميع فروعها بدعم التقرير وتطبيق توصياته، حيث وضع ملحوظة إضافية بعد نشر التقرير على موقع المنظمة الإلكتروني تشير إلى "المسؤولية الخاصة" لفرع "العفو" بألمانيا بسبب الهولوكوست" وقال إنه "بالنظر إلى السياق الوطني (الألماني) الحالي وكذلك التاريخي فإن نقاشا موضوعيا ذا صلة حول التقرير سيكون من الصعوبة بمكان". وأضاف الفرع الألماني للمنظمة الدولية: "من أجل مواجهة التفسيرات الخاطئة للتقرير لن يخطط قسم منظمة العفو بفرع ألمانيا أو ينفذ أي أنشطة تتعلق بالتقرير". وكأن لسان حال الفرع يقول إنه يمكننا تجزئة الإنسانية، عبر التغاضي عن محاسبة المجرمين الحاليين كون أجدادهم كانوا ضحايا لجرائم نظام عنصري تم التخلص منه قبل النكبة الفلسطينية بثلاثة أعوام.