في استكمال الانقلاب على قيم الحداثة

في استكمال الانقلاب على قيم الحداثة

02 سبتمبر 2023

أنصار لحسن نصر الله خلال خطاب ملتفز له في الضاحية الجنوبية في بيروت (3/1/2023/فرانس برس)

+ الخط -

اعتاد اللبنانيون أن يطل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، عليهم، بمناسبة ومن دون مناسبة، ليتكلم ويفتي في كل المواضيع وكل الاختصاصات، ويستفيض في شرح المعضلات ومقاربتها وتفنيدها ومعالجتها، فهو يفتي في الاقتصاد، ويتبحّر في تقنيات السلاح، وله نظريات ورؤى وتطلعات في الاجتماع الإنساني، وخبير في النفس البشرية، وضليع في الدين، وله معرفة واسعة في الزراعة، ويدرك ما لا يدركه غيره في التخطيط الاستراتيجي، وله آراء في الصناعة والتصنيع، ويعلم خفايا السياسة والتخطيط على المديين البعيد والقريب، ومتعمّق في الفكر الحضري الإنساني، ومؤرّخ، وعالم في الجيولوجيا والزلازل، ويستشرف المستقبل، ويقلّب التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ليكشف أبعادها التآمرية... إلخ، إلى درجة يمكن القول معها إن نصر الله يمتلك ويدير مصنعًا لإنتاج الأجوبة عن كل الأسئلة الممكنة وغير الممكنة بعد، المطروحة وتلك التي في طوْر الطرح، فلا شيء يمكن أن يشكّل عقبة معرفية أمامه، لا شيء يمكن أن يخطُر في بال أي إنسان إلا وله إجابة شافية ووافية فيه وعليه، فهو بمثابة متصفّح "غوغل" ضليع في المباشر والعيني، ومتعمّق في الظاهر والمُضمر والخفي والباطن.

يحبّ الجمهور في المجمل ذلك، يُشعره بالطمأنينة، فالجماهير تحبّ الوضوح، وإن كان وضوحًا دعائيًا غير حقيقي ولا منطقي وغير معزّز علميًا. لقد بقي جمهور محور الممانعة عمومًا، وجمهور حزب الله على وجه الخصوص، أسير هذه المعادلة، وأسير الفكر الشمولي التطيّري غير النقدي الذي عمل نصر الله جاهدًا على بثّه في كل من يسمعه، تحديدًا عند جماعته. ولحزب الله وإيران اليد الطولى في تكريس المعادلة كتتمة لمعادلة الجمع بين القيادتين الدينية والسياسية الزمنية في شخص الولي الفقيه، والجمع بين الإمكانات الحياتية والأخروية.

الغبطة والنشوة اللتان تحفران عميقًا في جمهور حزب الله حين يتكلم نصر الله تضاهيان (وتتخطّيان) كل غبطة، لا سيما أنهما تبثان فيهم طمأنينة ناجمة عن وجود قائدٍ يمتلك الحلول للمشكلات، فهم يسلّمون أمرهم إليه لأنه يفكّر عن الجميع، ويتحمّل مسؤولية الجميع، ويتفانى في حماية الأفراد والجماعات، ويتصدّى لكل ما يمكن أن يتخطّى تفكيرهم، بمعزل عن إن كانت الحلول التي ينتجها وهميةً لا تقارب ولا تعالج أي شيء، بقدر ما تكون بمثابة لزوم ما لا يلزم، هذا إن لم نرد أن نتكلّم عن قدرتها الاستثنائية على إنتاج المشكلات، والتي تتخطّى كل قدرتها على إنتاج الحلول. فضلًا عن المجهود المضاعف الذي تبثّه وسائل حزب الله والممانعة الإعلامية في تكرار كل ما يقوله، وعلى فتراتٍ ممتدّة، والتي لا هدف منها إلا ترسيخ كلامه ومعادلاته في لاوعي الجمهور، وإنْ كانت معادلات كارثية بمعظمها.

الغبطة والنشوة اللتان تحفران عميقًا في جمهور حزب الله حين يتكلم نصر الله تضاهيان (وتتخطّيان) كل غبطة

لطالما أدّت الاستراتيجية الغوبلزية هذه مهامّها والغاية المطلوبة منها لناحية المطابقة بين كل ما يصدُر عن الرجل والصدق والحق، ولو كان كلامه يتناقض مع أبسط شروط المنطق وقواعده، فالناس يمكنهم أن يدركوا عدم جدواها بشكل حدسي مباشر في اللحظة التي يسمعونها فيها، لأنها شيء ينطلق من تفكير ذاتي شخصاني فردي أكثر مما هو مؤسّساتي علمي وموضوعي، فهو يخالف كل بديهي.

هي ليست مجرّد حالة سياسية عامة تنعكس في شخص، وليست مسعى سلطويًا بحتًا، بل تتخطّى الحالة التي يبثها نصر الله، في شكلها المباشر، كل قواعد الحداثة التخصصية والعلمية والعقلانية والمؤسّساتية ومنطلقاتها، وها هي تشكّل حالة انقلاب على ذلك التراث بمجمله، فتعيد بثّ نمط التفكير التطيري والسحري والغيبي والشمولي. تفكير يُظهر أن نصر الله وحزب الله من خلفه، وإيران من خلفهما، يسعون جاهدين إلى إعادة إحياء ما تبقى من قواعد تدمير العقل النقدي بالطريقة التي تحلو لهم، فيعودون بوعي الناس إلى ما قبل، إلى روابط الدم، وإلى ما يُخالف أبسط أسس الحكم الحديث في شكله المؤسّساتي الديموقراطي المرتبط بالكفاءة، ويضعون مكانه مجموعة معايير شخصانية تنتج زعماء وآباء روحيين يمتلكون السلطة بشكل وراثي، ويؤسّسون لحكم أبوي وعائلي وعشائري قبلي.

المعادلة الأشهر، والتي تنصّ على أن "العارف بكل شيء، غير متعمّق بأي شيء" ما زالت سارية على خطابات نصر الله

هي محاولة من محاولات العودة إلى البحث في تلك المعادلة التي تنطوي في شخص حاملها على حقيقة أنه ضليعٌ في كل شيء، ويعرف في كل الأمور. أي بكلام آخر، شخصٌ مكشوف الحجاب عنه، مع كل ما يُنتجه من خطابات مغلقة وسياسة معلّقة تسعى إلى الإبهار والتسطيح، لا الجدوى والعمق، فالمعادلة الأشهر والتي تنصّ على أن "العارف بكل شيء، غير متعمّق بأي شيء" ما زالت سارية، بل هي تتأكد وتُثبت جدواها أكثر من قبل. لكن مع وجود شبكات إعلامية ودعائية كالتي تتحكّم في مجمل المشهد وتعيد إنتاجه على كيفها، وبالتوازي مع ضرب تغذية كل مسعى نقدي، وبعد استبدال كل إنتاجية وإنسانوية بمعادلة تفيض بالقوة، وما ينتج عنها من إشباع، لا يمكن إلا أن تسود الشعبوية التي تهيمن بدورها على كل منظور، فتبسط القراءات اليمينية والتبريرية والشخصانية الخارجة عن التاريخ سلطتها، وتعود وتحيل كل شيءٍ إلى سياقاتٍ ما ورائية لا يمكن التأثر بها ولا التأثير فيها، بل فقط الرضوخ لها ولمن ينطق بها.

لم يعد الأمر مجرّد اختلاف في التوجّه السياسي الذي يمثله نصر الله وحزبه، وإيران من خلفهما، وليس مجرّد اختلاف في هذا التصوّر أو ذاك النوع من الحكم. بل هو خلاف حول السياق التاريخي الحضاري بما يمثله من وثبة فوق كل منتجات العلم والتقنية والمنهجية العلمية والنقدية منذ أكثر من 500 عام. إنه خلاف على وثبةٍ لا تقف عند حد، بل تؤسس وتستثير وثبات أخرى تتخطّى كل منتجات العقل البشري في سعيه إلى تنظيم أموره ومجتمعاته، وكل محاولاته لتأسيس أو إدارة دولته وحماية إنسانها.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية