السياسي والطبقي ومستقبل مصر

السياسي والطبقي ومستقبل مصر

17 فبراير 2015
+ الخط -

جاءت ثورة 25 يناير في مصر بشعار العدالة الاجتماعية، بناء على التحركات العمالية السابقة التي ألهمت الثورة، لكن العمال والفقراء لم يحصدوا سوى الإحباط والخيبة. ما جعلهم يستمرون في احتجاجاتهم، طوال السنوات التالية للثورة، في حكم المجلس العسكري والإخوان المسلمين وعبد الفتاح السيسي.

ومنذ اعتماد الرئيس أنور السادات سياسات الانفتاح الاقتصادي، والسياسات الاقتصادية المصرية تراعي الأغنياء على حساب الفقراء. وقد زاد تغول الأغنياء في عهد الرئيس حسني مبارك، إلى درجة أن الاستقطاب الاجتماعي أنتج هوة سحيقة بين الأغنياء والفقراء، تحتاج أي تنمية اقتصادية جدّية إلى تقليصها. فالغنى الوحشي في مقابل الفقر الوحشي، مشهد مألوف يمكن رؤيته في شوارع المدن المصرية، وعلى أرصفتها، من دون الحاجة إلى إحصاءات دائماً ما تكون جافة وحيادية، في مقابل مشاهد الفقر والعوز المدقع التي تحكي قصة معاناة إنسانية مرعبة تدمي القلب. في مصر، الفقر المدقع مجاور للغنى الوحشي، وفي أماكن كثيرة يعيش الفقر إلى جوار الغنى ليخدمه، وليس غريباً أن تجد الاثنين متجاورين، فالفقراء الذين يخدمون المناطق الغنية يبنون، إلى جوارها، عشوائيات ليجاوروا من يخدمون، ويكونوا حاضرين سريعاً عند الحاجة إليهم.

جعلت الفوارق المذهلة في الدخول بين الأغنياء والفقراء في مصر مطلب العدالة الاجتماعية ضرورياً وملحاً، فطوال العقود الثلاثة التي حكم فيها مبارك، كانت هذه الهوة تزداد باستمرار. وبقي مطلب العدالة الاجتماعية، حتى بعد ثورة 25 يناير، شعاراً، ولم يجد طريقه إلى الواقع المصري. وبعد الثورة، تحدثت السلطات الحاكمة، سواء "الإخوان"، ممثلة برئاسة محمد مرسي، أو السلطة الجديدة للعسكر، ممثلة بعبد الفتاح السيسي، عن رفع الدعم عن بعض السلع، خصوصاً الوقود، وقد رفعت سعر الكهرباء والوقود والغاز، العام الماضي، حكومة إبراهيم محلب، وقبل انتخابات الرئاسة، حتى لا يتحمل السيسي مسؤولية رفع الأسعار، بعد أن يصبح رئيساً. واليوم يتم الحديث عن موجة جديدة من رفع الدعم عن المحروقات. وإذا كانت الحجة في رفع الدعم تستند إلى أن الدعم لا يذهب إلى مستحقيه، فإن رفع الدعم مع الارتفاع الكبير في الأسعار بسبب التضخم، فمن المؤكد أنه سيمس مستحقي الدعم، وسيزيد الأعباء عليهم. كما أن السياسات التي اعتمدتها سلطة "الإخوان"، أو السلطة الجديدة، لا تحاول المسّ بمصالح الأغنياء، بل تحاول تقديم التسهيلات لهم، من أجل عدم مغادرة البلاد مع أموالهم، وحاولت تقديم التسهيلات لعودة رؤوس الأموال الهاربة المرتبطة بنظام مبارك. وقد بدأت هذه السياسة سلطة الإخوان، واستمر بها السيسي، على اعتبار أن مصر بحاجة إلى أغنيائها للنهوض بالاقتصاد، وكأن هؤلاء ليسوا المسؤولين عن الخراب الاقتصادي الذي تمر به مصر، وكأنهم ليسوا من نهب مصر، وراكم الثرواث على حساب الفقراء؟ راكم هؤلاء ثروات هائلة، بلغت المليارات، فهناك ثمانية مليارديرات في مصر، يملكون أكثر من 24 مليار دولار، جنوها كلها من المجتمع المصري الفقير، وهذا العدد من المليارديرات غير موجود في دولة نفطية كبيرة، مثل العربية السعودية.

يفرض الفقر والتردي الاقتصادي من أي سلطة أن تدعم الطبقات والشرائح الاجتماعية الأكثر حرمانا، وليست هذه سياسة السلطات المصرية المتعاقبة. والحجة الدائمة عدم وجود الموارد اللازمة لأجل ذلك، خصوصاً مع اقتصاد متداعٍ، وبلد يعيش اضطرابات سياسية، تزيد من الضغوط على الوضع الاقتصادي. فالأرقام الاقتصادية تضغط على المستقبل بقوة، إلى درجة أن كل المليارات التي ضختها الدول الخليجية، لم تؤثر في تحسن الأداء الاقتصادي المصري المستمر في التراجع، كل المساعدات ذهبت في طريق تسديد العجز الهائل في الموازنة التي تبلغ أرقاماً مرعبة. فقد وصل الدين العام المحلي، حسب الأرقام الرسمية المصرية، في منتصف عام 2013، إلى 1.6 تريليون جنيه، بما يعادل 78% من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن معرفة التردي الاقتصادي السريع، إذا عرفنا أن هذا الدين كان 658 مليار جنيه في 2008. أما الدين الخارجي فقد ارتفع إلى 47 مليار دولار، بما يساوي 16% من الناتج المحلي، بينما كان 30 ملياراً في 2009. تبدو الأزمة أكثر استحكاماً، إذا عرفنا أن حجم المنح والمعونات والقروض التي تدفقت على مصر في عام 2012 ـ 2013 بلغت 13 مليار دولار، تشمل ودائع وقروضاً وبترولاً واستثمارات من دول مختلفة. بالإضافة إلى تعهدات أخرى من دول الخليج الداعمة للسلطة الحالية. وإذا أضفنا مؤشرات الاستثمارات الأجنبية، ستكون الصورة أكثر سوداوية. فقد شهدت هذه الاستثمارات انخفاضاً حاداً، من 6.7 مليارات دولار في 2009 - 2010 ما نسبته 3% من الناتج المحلي، إلى 0.4 % منه، بواقع 1.2 مليار دولار عام 2013. يأتي هذا مع معدلات نمو متواضعة، أقل من النمو السكاني المصري. وإذا وضعنا، الى جانب هذه الأرقام، الأرقام الاجتماعية، مثل مؤشر الفقر الذي يبلغ، حسب الرقم الرسمي، 26.3 % بواقع 11 جنيهاً للفرد يومياً، أي حوالي 1.5 دولار، وهو أقل من المقياس العالمي الذي يحدد دولارين خطا للفقر. وتشير الأرقام إلى أزمة اقتصادية طاحنة، لا يمكن الخروج منها، من دون عدالة اجتماعية، تستهدف الشرائح والفئات الأكثر فقراً وحرماناً. والإبقاء على السياسات التي تحابي الأغنياء على حساب الفقراء، هي تأجيل للأزمة، لكنها تجعل الاحتقان قابلاً للانفجار بقوة أكبر من السابق، وقد نكون أمام موجة ثالثة من الثورة المصرية في المستقبل القريب.

في الفترة المقبلة، وعلى الرغم من التعمية على الأوضاع الاقتصادية المتردية، باستحقاقات سياسية، تبدو ضروية من أجل استكمال بنية السلطة في مصر، مثل الانتخابات البرلمانية، فإن التردي الاقتصادي يُلقي بثقله على المجتمع المصري، هناك شرائح تزداد فقرا، وبشكل محسوس ومتسارع. ما يجعل أعداداً متزايدة من الطبقة الوسطى المصرية تنحدر أوضاعها إلى الفقر، ما يعزز الاحتقان في الشارع المصري الذي انتظر تحسن أوضاعه الاقتصادية. بدلاً من ذلك، وجد أوضاعه تزداد سوءاً، ما يجعل ثورة جياع تلوح قريباً.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.