بين اليوسفي وبن كيران

بين اليوسفي وبن كيران

04 يونيو 2020
+ الخط -
يحتل الصراع على الرموز حيزاً لا يستهان به في معارك السياسة. ولذلك فإن استدعاءها وزجَّها في التقاطبات السياسية والمجتمعية يكاد يكون أمراً بديهياً... مناسبة هذا الكلام رحيلُ الوزير الأول المغربي الأسبق، عبد الرحمن اليوسفي، والتراشقُ الذي أعقب ذلك بين يساريين وإسلاميين بشأن المقارنة بين الزعيم الاتحادي الراحل ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران. ويعكس هذا التراشقُ منسوباً وفيراً من الخيبة، لدى المغاربة، بعد أن أخفقت حكومتا اليوسفي (1998 - 2002) وبن كيران (2012 - 2016) في الانعطاف بقطار السياسة المغربية نحو الديمقراطية.
تختلف التجربتان في كل شيء، ويكاد لا يجمع بينهما غير ما آلتا إليه. كان اليوسفي أحد الكوادر البارزة في العمل الوطني وخلايا المقاومة المسلحة. وبعد الاستقلال انحاز، مع المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري، إلى الجناح اليساري للحركة الوطنية، ممثلاً في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ولكن التنظيم الجديد سرعان ما دخل في مواجهة مع النظام، زادتها حدّةً أحداث الدار البيضاء، واختطاف بن بركة (1965)، الأمر الذي سيدفع اليوسفي إلى اختيار المنفى سنوات طويلة، قبل أن يعود إلى المغرب (1980) عقب صدور عفو ملكي عنه. وبعد رحيل عبد الرحيم بوعبيد (1992) سيبرز اسم اليوسفي ليقود سفينة الاتحاد الاشتراكي، في ظل الانفتاح السياسي الذي دشنه الملك الراحل الحسن الثاني، والذي تُوّج بتعيينه اليوسفي على رأس حكومة التناوب (1998).
كان اليوسفي يُدرك أن التناوب التوافقي محصلة لرغبة الملك الراحل في ضخّ دماء جديدة في السياسة المغربية، ولم يكن نتيجة تعديل في ميزان القوى، فالنتائج التي حصل عليها الاتحاد الاشتراكي في انتخابات 1997 لم تكن تسمح له بتشكيل حكومة قوية ومنسجمة. كما كان يُدرك أن دستور 1996 لم يكن يختلف عن الدساتير السابقة، فيما يخص حفاظه على مركزية الملكية في إدارة موارد الحقل السياسي. ولذلك لم ينشغل كثيراً بضرورة وجود اتفاق أو ميثاق سياسي مكتوب يلزم النظام بجدولة زمنية واضحة للتحول الديمقراطي. كان اليوسفي يؤمن بأن إنجاز هذا التحول يتطلب الصبر والوقت وفائضاً من الثقة بين الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، خصوصاً أمام مؤشرات الانفتاح اللافتة التي رافقت السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس. وقد أثبت الوقائع بعد ذلك أن معظم حسابات اليوسفي كانت خاطئة، وأن النيات الحسنة لا تكفي وحدها للتحول نحو الديمقراطية.
في المقابل، تكاد الخلفية السياسية لبن كيران لا تختلف عما شهدته جماعات الإسلام السياسي العربي، فبين العمل الدعوي السري والعمل من داخل المؤسسات يمتد مسارٌ مركبٌ من المراجعات الفكرية، والإيمانِ بفعالية التغلغل المتدرّج في المجتمع، عبر العمل الدعوي والتربوي والأهلي والإعلامي. وسيكون للانفتاح الذي عرفه المغرب مطلع التسعينيات أثره في إكمال مسيرة اندماج الإسلاميين المغاربة في الحقل السياسي الرسمي، والتي كان بن كيران أحد مهندسيها. وقد سرّعت رياح الربيع العربي هذه المسيرة، وحملت بن كيران إلى رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2011.
كان هامش حكومة بن كيران أوسع قياساً إلى حكومة اليوسفي، فقد جاءت حكومته في سياق ظرف إقليمي خلط الأوراق، وأربك حسابات الجميع. كان أمام بن كيران دستور يخوّله، بصفته رئيساً للحكومة، صلاحياتٍ كثيرة، تمكّنه من ترجيح التأويل الديمقراطي لهذا الدستور، لكنه فضل أن يكون وزيراً أول وليس رئيس حكومة، والفرق شاسع ودال بين التسميتين. كانت أمامه موارد سياسية، لم تتوفر لليوسفي، لإنجاز إصلاحاتٍ اجتماعيةٍ كبرى، لكنه فضّل عدم استثمارها مخافة أن يثير غضب النظام.
في الملف الاجتماعي، أسهمت سياسات حكومته في تجريد الطبقة الوسطى من مكاسب اجتماعية راكمتها طوال عقود، وهو ما لم تقم به، للإنصاف، حكومة اليوسفي التي حاولت، على الرغم من الإكراهات (الضغوط) المالية التي واجهتها، الحفاظ على القاعدة الاجتماعية لهذه الطبقة، وعدم المساس بمكتسباتها.
وأخيراً يُحسب لليوسفي زهده وتعففه في الاستفادة مما تقدّمه ممارسة السلطة من مزايا لا تحصى. ويكفي أنه تنازل عن تعويضاته التي كان يستحقها بموجب القانون، بينما استفاد بن كيران من معاشٍ استثنائي، بموجب (القانون!) أيضاً.