بقاء وتحدّيات

بقاء وتحدّيات

25 مايو 2020
+ الخط -
تحدّياتٌ كبرى لا نتوقف عندها في الأحوال العادية، غير أنها تواجه الواحدَ منا بشكل ملحّ، لا يمكن التغاضي عنه في ظل ظروف الكون الاستثنائية الراهنة، المتعلقة بمعطيات جائحة كورونا التي ما إن تهدأ في بقعة من العالم محدثةً حالة انفراج نسبي يلتقط الناس فيه أنفاسهم، ويخرجون إلى الشوارع، محتفلين باحتمال الخلاص، حتى تعود لتثور بشكلٍ أشدّ ضراوةً في بقعةٍ ثانية، فيتراجع الفرح وينحسر الأمل ويبقى اليأس والقنوط عنواناً وحيداً للمرحلة المظلمة، وتستمر حالة الترقب والتوجّس والذعر. نظل في قلقٍ واضطرابٍ دائم له ما يبرّره، بعدما استنفدت طاقة معظمنا في انتظار حلّ طبي ما، أو معجزة إلهية تعيد الحياة إلى سيرتها الأولى، ببساطتها وتقلباتها، ومدّها وجزرها وأحداثها المتنوّعة، وفرح مباغت وخيبة أمل واقتراب وابتعاد وتناغم وتنافر، لكن أحوالنا جميعاً قد تبدّلت. انتفى الاختلاف، وتوحّد المزاج الكلي لقاطني الأرض في هاجسٍ واحدٍ بات حقيقةً تفرض شروطها على إيقاع أيامنا. وفي ظل هذا الواقع الجديد، فإن الأولوية الأولى والتحدّي الأكبر الذي نواجهه هو استمرار القدرة المالية للإيفاء بمتطلّبات الحياة الأساسية من مأكل وملبس ومشرب، والسعي إلى المحافظة على مستوى دخل ثابت، يقي المرء شر الحاجة وذل السؤال، وذلك ليس بالأمر اليسير على فئةٍ واسعةٍ من الأفراد، ممن فقدوا وظائفهم بسبب إجراءات التصدّي للوباء التي اتخذتها بلادهم، وألزمتهم بيوتهم، وتسببت، في أحيان كثيرة، بإغلاق المؤسسات التي يعملون فيها، وكذلك من العاملين في الخارج وتقطعت بهم السبل، من دون توفر مظلة أمان اجتماعي، تؤمن لهم ولعائلاتهم الحدّ الأدنى من متطلبات العيش الكريم.
إذا ما توفّر هذا الشرط الإنساني، وهو أحد أبسط حقوق المواطن على بلده، يهون كل شيء، مهما كان شاقاً. غير أن ما يحدث على أرض الواقع يشي بتنصّل الدول بذريعة الضائقة المادية (سيما في العالم الثالث) من مسؤوليتها القانونية والأخلاقية التي تؤكد واجبها في حماية مواطنيها، واتخاذ إجراءاتٍ استثنائيةٍ في ظروف الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة، وذلك بحسب القوانين والأعراف الدولية التي تلزمها بتوفير كل أشكال الأمن والأمان للمنكوبين من مواطنيها، ممن تسبّبت لهم تلك الظروف بانهيار حياتهم وضياع مستقبل أبنائهم. وكل ذلك لا يعفي فئة الأكثر حظاً من الأثرياء لتأدية واجبهم تجاه أوطانهم التي أتاحت لهم كل سبل الثراء الفاحش وقد تحقق بعرق الفقراء وكدحهم وصبرهم على مرّ العيش. آن لهم الكفّ عن هراء التنظير الأجوف غير المجدي عن طرق الصبر على عضّة الجوع، وأن يضطلعوا بمسؤوليتهم المجتمعية، ويسددوا بعضاً من الديْن الذي في أعناقهم، تحقيقاً لمبدأ التضامن والتكافل بين طبقات المجتمع الآيل للتصدع والانهيار، جرّاء اتساع الهوة بين أفراده، وقد عمّ فيه الفقر والبطالة، وتفشّت مشاعر الإحباط والغضب والقهر. لعلّ في بلاء كورونا فرصةً نادرةً لأولئك المتشبّثين بزخرف الدنيا الفانية، كي يتخلوا عن أنانيتهم وجشعهم، ويفسحوا لأرواحهم اختبار تجربة العطاء ولذّتها التي لا تُضاهى. أما التحدّي الذي لا يقل أهميةً، ولا ينطوي على ترف أو فذلكة، فهو أن نتمكّن بكل ما أوتينا من طاقة وعناد ورغبة في التحكّم بمصائرنا من المحافظة على سلامتنا العقلية واتزاننا النفسي، وسط كل هذا الجنون المحيط بنا من كل صوب من أشخاصٍ ليس من العدل توجيه اللوم لهم، لسعيهم في تدبر عيشهم، وقد نفد صبرهم، وضاق صدرهم، فأمعنوا بالتهافت والتدافع والتزاحم والمخالطة غير الرشيدة في أسواقٍ اكتظت بشكل انتحاري مثير للقلق، قبيل أعياد حلت خجولةً جريحةً مخدوشةً مسكونةً بهاجس البقاء ليس إلا.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.