ذلك الغول المتربّص

ذلك الغول المتربّص

20 ابريل 2020
+ الخط -
المكوث القسْري طويلا في الحجْر، بفعل لعنة كورونا التي ألمّت بالكون، وسطت على أيامك، وحوّلتها إلى لحظات هلع وترقب ويأس وقنوط وتراكم أحزان، هذا المكوث الجبْري الذي تراه مقيتا سوف يضعك، في النهاية، ومهما بذلت من محاولات تحايل وتهرّب في مواجهةٍ حتميةٍ لا مفرّ منها مع عدوك الحقيقي، لتكتشف أنه ألد خصومك وأشدهم شراسةً على الإطلاق، يحيق بك من كل صوب، وأنت تتعرّف إليه مكرها مجرّدا من أدوات الدفاع. تحدق في حقيقته المرعبة، ولا تملك إزاء شماتته مستفردا فيك سوى الإقرار بعجزك المطلق عن مواجهة سطوته، وثقل حضوره. نعم إنه الوقت، ذلك الوحش الكاسر، عديم الرحمة والمروءة، تتأكد حينها أن سارتر لم يكن دقيقا في تعريفه الجحيم، حين قال إن "الجحيم هم الآخرون"، ضع عنك هذه المقولة جانبا، لأن الآخرين مقدور عليهم، بإمكانك اعتزالهم وتفادي أذاهم.
أما الوقت، بتكّات ساعته الرهيبة المتتابعة، ذلك الغول المتربّص الشره، فإنه ملازم لك على مدار اللحظة، لم تنتبه من قبل إلى علاقة العداء التاريخية التي تجمعك به، كنت منهمكا في التفاصيل الصغيرة، متوهما أن كل شيء على ما يرام، وأن الحياة جميلة وحافلة بالدهشة، لم تنتبه إلى مصطلح قتل الوقت الذي نستخدمه من دون عميق إدراك، مع أن كل خطوة نقدم عليها يكمن وراءها هدف قتل الوقت، حين تمارس تفاصيل حياتك برمتها طموحك المهني، نشاطك الاجتماعي، علاقاتك الإنسانية بمختلف أشكالها، كل ما تفعله يرمي به لا وعيك إلى قتل الوقت. كنت تردّد باقتناع كبير مثل غيرك من الناس أن الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك، عبارة بليغة تدل على أهمية اللحظة الراهنة، باعتبارها الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الجدال.
في الحجْر، تتبدّى تلك الحقيقة مجرّدة بسيطة، غير أنها تنطوي على تحدٍّ كبير. لذلك، وعلى الرغم من كل الضيق والقلق والضجر، ليس أمامك من مفرّ سوى ترويض الوقت وتطويعه وتدجينه، إذا لزم الأمر. يتأتّى ذلك إذا تمكّنت من إعادة صياغة العلاقة الإشكالية مع الوقت الذي لن تسعى إلى قتله، لأنه غير قابل للتبدّد بسهولة، فلنجرب التنظيم والسيطرة والتعاطي الرشيد مع حقيقته الثقيلة، وهذا ليس سهلا إذا لم تتمكّن من الانهماك في تفاصيل عديدة، تشغل ذهنك وجسدك في آن. قراءة كتاب ممتع يرحل بك بعيدا عن الزمان والمكان، ويبيح لعقلك آفاقا أوسع تتجاوز حدود البيت، مشاهدة فيلم شائق يمسك بحواسّك مجتمعة، ويمنح خيالك فسحة التحليق في فضاءاتٍ مختلفة، تكسبك طاقة متجدّدة، ممارسة الرياضة المتاحة لعل أفضلها المشي بخطوات سريعا في الحي والتأمل في التفاصيل التي تغفلها في العادة، استنشاق الهواء النظيف المنعش الخالي من رائحة عوادم السيارات، الإنصات مليا إلى صوت الطبيعة، وهي تستعيد عافيتها.
وفي المطبخ، ثمة فضاء مختلف، إذ تمنحك تجربة الطهي فرصة مزج العناصر والابتكار والفرح بالإنجاز. الموسيقى والأغنيات الجميلة كفيلة بملء الوقت بالجمال والبهجة، التأمل عميقا في الذات والآخر، واكتساب مهارة الإحساس بالآخرين، التفكير بعظمة وأهمية دور ربّات البيوت اللواتي يقضين جل أعمارهن بين جدران أربعة، يبذلن كل طاقتهن من أجل راحة العائلة بدون تذمر أو مطالبة بحقوق عمالية. أيضا يمكنك اغتنام الوقت الفائض بالتفكير في ما مضى بك من تجارب، حاول ألا تتنكّر لها، مهما كانت مريرة وقاسية، وقرّر، بكل ما أوتيت من إدراك، تصويب مسار حياتك المعطلة، ولكن إلى حين، لعل القادم يكون أجمل.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.