في التَجَنّي على تركيا

في التَجَنّي على تركيا

06 مارس 2020
+ الخط -
يشكّك بعضهم في موضوعية من يؤيدون التدخل العسكري التركي في سورية، أو يتفهمونه، أو يصمتون عنه، في حين أنهم لا يخفون معارضتهم الشديدة، ونقدهم الحاد للتدخلات الروسية والإيرانية والأميركية. ويعزّز هؤلاء منطقهم بالتذكير بأن مؤيدين كثيرين لتركيا في سورية لا يتردّدون في سلق الإمارات والسعودية بألسنة حداد بسبب جرائمهما في اليمن، أو مصر بسبب دورها التخريبي في ليبيا، طبعا جنباً إلى جنب مع الرياض وأبو ظبي. بل إن بعض هؤلاء المشككين يذهبون إلى أبعد من ذلك، عندما يتهمون المتعاطفين مع تركيا بأن هواهم "عثماني" وليس عربياً، وأنهم لا يمانعون غزواً "عثمانياً" جديداً لأرض العرب! 
بداية، لا شك أن كثيراً من العرب اليوم يتعاطفون مع تركيا ويناصرونها. وتتعدد أسباب ذلك ما بين إيديولوجية، قائمة على افتراض بعضهم للهوية الفكرية لحكام تركيا في هذه المرحلة. وجيواستراتيجية، استناداً إلى بعض مواقف تركيا الرسمية من قضايا حساسة في المنطقة، كموقفها المعارض لحصار قطر ودعمها، واستضافتها آلاف المعارضين العرب المطاردين من أنظمة بلدانهم. وهناك نوع ثالث من الأسباب يتعلق بالانبهار بشخصية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خصوصاً لناحية بعض مواقفه المتناغمة مع نبض الشارع العربي ومزاجه، كمعارضته إسرائيل ودعمه الفلسطينيين، أو حديثه الواضح عن حقوق مسلمين مستضعفين، كما في ميانمار والصين والهند. وهناك نوع من الانبهار بتركيا نفسها التي تحولت تحت قيادتها الحالية، مطلع هذا القرن، إلى دولة يشار لها بالبنان، مقارنة بمحيطها، لناحية العمران والتقدّم والاقتصاد.
ضمن النسق السابق، يبرز الموقف التركي من الأوضاع في سورية واحدا من أهم أسباب تعاطف كثيرين معها، ليس لأنها تستضيف قرابة أربعة ملايين لاجئ سوري على أراضيها فحسب، بل لأن موقفها من إجرام نظام بشار الأسد في حق شعبه أقرب إلى ملامسة الضمير الشعبي العربي الجمعي. هذا لا يعني أن تركيا دولة بلا أجندة أو حسابات جيوسياسية في سورية، وفي عموم الإقليم، كما في ليبيا مثلاً. البسطاء فقط من يقولون بذلك أو يؤمنون به. والسذّج فقط من يظنون أن المرجعية الإيديولوجية لأردوغان ورفاقه هي ما يحكم سياساتهم واستراتيجياتهم. تركيا دولة إقليمية معتبرة، تبحث، أولاً، عن تأمين أمنها ومصالحها في محيطها، ثمَّ توسيع دائرة نطاق نفوذها ومصالحها في الإقليم ككل.
وهذا لا ينفي أن التعاطف مع تركيا، عربياً، وتأييد كثير من سياساتها، وتحديداً في سورية، له ما
 يبرّره. تركيا هي الوحيدة من بين الدول الأخرى المتورّطة في الصراع السوري التي لا تمارس القتل الممنهج والعشوائي بحق الشعب السوري. وإذا جاز لنا الحديث عن بعض الخذلان الذي وجده السوريون من تركيا سابقاً، كما في حلب (عائد بالدرجة الأولى إلى محدودية القدرات التركية في مواجهة روسيا تحديداً، خصوصاً في ظل توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي)، فإن التوتر بينها وبين النظام السوري اليوم، ومن ورائه روسيا وإيران، في محافظة إدلب، يأتي في سياق محاولتها الحفاظ على التفاهمات المشتركة هناك لحماية قرابة أربعة ملايين مدني، في حين يريد الطرف الآخر استعادة المحافظة مع سحق الشعب فيها وتشريده نحو الدولة التركية لتعظيم معضلتها في اللاجئين على أراضيها.
لهذا، من التجني مقارنة تركيا بكل من إيران وروسيا اللتين تمارسان إجراماً فظيعاً في سورية. كما أنه من التجني مقارنة ما تفعله تركيا في سورية مع ما تفعله كل من السعودية والإمارات في اليمن. الطرفان، الثاني والثالث، قتلة دمرا اليمن ومزّقاه ولم ينصرا شعبه على المليشيات الحوثية، أما تركيا فلم تلغ في دماء الشعب السوري. وفي حين تدعم كل من طهران وموسكو جرائم الأسد بحق شعبه، تدعم أنقرة، وإن بشكل محدود، المعارضة الوطنية. هل هذه مسوّغات تضع السياسة التركية في سورية فوق النقد والمساءلة؟ أبداً. ولكن مساواة سياساتها وأفعالها بما تفعله إيران وروسيا تتجاوز اللاموضوعية إلى الإسفاف.
لا يوجد سوري وطني مخلص، ولا عربي يغار على عروبته، لا يؤلمهما ما انتهى إليه حال سورية والعرب عموماً. ولكن ماذا نفعل إذا لم يكن للعرب أجندة تعبر عن مصالح عالمهم وشعوبهم؟ وعلى من نعتمد ونحن لا توجد لدينا دولة عربية واحدة قوية ووازنة، يمكن أن نراهن عليها ونعطيها دعمنا وتعاطفنا؟ إذا كان الخيار المطروح أمامنا اليوم، نحن الشعوب العربية، هو بين تركيا وبين أميركا وروسيا وإيران والسعودية والإمارات ومصر، فإن الخيار هو تركيا. وإذا كان الخيار في سورية بين الجيش التركي، وقوات الأسد، وشبيحة نظامه، وروسيا وإيران، ومليشياتها، فإن الخيار سيكون تركيا أيضاً. هذه هي الحقيقة المُرَّةِ التي لا يريد أن يقرّ بها أدعياء الموضوعية، ذلك أن الأتراك تحت نظامهم السياسي الحالي، ومهما قلت فيهم، يبقون أرحم وأشرف ألف مرة من هؤلاء مجتمعين. اسألوا أهل إدلب إن كنتم لا تصدّقون، أم أن شعبها أيضاً جزء من المؤامرة "الإمبريالية" و"الرجعية" على "محور الممانعة" الذي أضحت روسيا بقدرة قادر قطب رحاه!؟