نحو بناء جبهة عربية للتنوير

نحو بناء جبهة عربية للتنوير

05 مارس 2020

(محمد العامري)

+ الخط -
تشكّلت وتطورت مبادئ التنوير وقيمه في أوروبا القرن الثامن عشر، وبرزت بوضوح في فرنسا وألمانيا، وإن كانت إرهاصاتها الأولى قد ظهرت في بريطانيا. وقد تواصل انتشارها واتساعها في جهات أخرى ابتداء من القرن التاسع عشر. نشأت حركة التنوير في الفلسفة، واتخذت، منذ بداية تشكلها، على أيدي الموسوعيين من الكتَّاب والفلاسفة في فرنسا، شكل الفعالية الاجتماعية الهادفة إلى مواجهة مجموعةٍ من القيم والخيارات الدينية والفلسفية، وعكست، في نصوصها، ما يعبّر عن أنماطٍ من المجابهة بين أنماط من الوعي الجديد الرافض تقاليد وطقوسا دينية. 
انخرط التنويريون في مشروع فلسفيٍّ يتوخى، أولاً وقبل كل شيء، إنجاز نقد شامل للمجال الديني، وذلك باعتماد سلطة العقل، كما تبلورت وتطورت في الفلسفة الحديثة. ولم يتردَّد فلاسفة الأنوار في مخاصمة مختلف التقاليد التي بناها اللاهوت في العصور الوسطى. وقد تعزّزت خيارات التنوير في الفلسفة الحديثة بفضل ما واكبت من ثورات وتحولات في عصر النهضة، حيث اقترن مشروعها الفلسفي بثورات الفيزياء والفلك والرياضيات، وارتباط ذلك بتطور الجامعات والصناعات التي عرفها الغرب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكان من نتائج هذه الثورات بدايات التخلص من تصورات وتقاليد لاهوتية كثيرة في مختلف المعارف، في اللغة وفي التاريخ، وكذا في كيفيات النظر إلى الطبيعة وموضوعاتها. وتمنحنا مواد الموسوعة التي أعدّت في أفق الأنوار إطاراً عاماً لمعرفة المسارات التي عكست أشكال تجاوز المعرفة الجديدة لمنطق العقائد الدينية السائدة وتقاليدها.
وإذا كان بعضهم يرى أن نموذج التنوير الغربي، المحكوم بشروط وسياقات وأسئلة محدّدة، قد
 استنفد زمانه، حيث يعيش الغرب اليوم مآزقه الأخلاقية والمالية والبيئية والتقنية، وحيث نقف في كثير من أنماط حضوره وهيمنته على جوانب من بُؤْس عالمنا وإفلاس قِيمه، إلا أن الفكر الذي يعلن عداءه الأنوار لِيَتَحَصَّن بالقيم التقليدية، ويُرَكِّب الأصوليات مجدَّداً، متخلياً عن مآثر فلسفة الأنوار في النظر النقدي، وفي عمليات التحرّر من قيود اللاهوت، يتناسى أن قيم التنوير تندرج ضمن مشروع تاريخي في الحداثة والتحديث، مشروع يتميز بامتلاكه القدرة على إبداع مساراته المتعدِّدة، كما يمتلك القدرة على مواجهة أعطابه. نحن هنا نصادر على كونية مطلب الأنوار، ونميز بين طابع المطلب في حاضرنا العربي وطبيعته في المجتمعات الغربية.
يتيح لنا فحص نمط التلقي الحاصل لفلسفة الأنوار وقيم التنوير في الفكر العربي المعاصر أن ندرك جوانب من العوائق التي أنتجت عُسر (وإخفاق) التمثل المبدع والمُطوِّر لروح خيارات التنوير في ثقافتنا، فهناك، من جهةٍ، نوع من الاستسهال في عمليات الاقتراب من مكاسبه، كما تبلورت في التاريخ الغربي، الاستسهال الذي حوَّل الأفق الأنواري في نظر بعض المنافحين لقيمه إلى شعارات مغلقة، وحوَّلها، في نظر آخرين، إلى فكر وثقافة مناقضة كلية لموروثنا الثقافي. وقد حصل ذلك، من دون إدراك عميق لأهمية مكاسب فلسفة الأنوار وأدوارها في التاريخ الحديث، في علاقته بشروطه الجديدة في المعرفة وفي المجتمع، وفي تحقيق مطلب التقدّم المرتبط بضرورة انتصار الإنسان على مختلف صور قُصُورِه..
ننطلق، ونحن نفكر في حاجة مجتمعنا إلى جبهة عربية للتنوير، من مسألة نعتبر فيها أن معركة 
التنوير في مجتمعنا شاملة ومركَّبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها يُقلِّص من إمكانية الإنجاز الذي نصبو إليه. ولهذا السبب، يشكّل مشروع التنوير اليوم البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة الراهن في مجتمعنا، وقد كان الأمر كذلك قبل أربعين سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها في كَمِّ الزمان، إلا أن الأمر الذي لا ينبغي التراجع عنه أو التفريط فيه هو أن نتخلّى، تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري، عن مواصلة العمل من أجل بناء قيم التنوير والحداثة، وإعادة بنائها باستمرار من دُون كَلَلٍ في حاضرنا المفتوح على أزمنةٍ مضت وأخرى مقبلة.
تساعدنا جبهة التنوير على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء التي تُعاين بوضوح صور انتشارها المخيف في مجتمعاتنا، وفي وسائط الاتصال الشائعة في عالمنا الافتراضي، جبهة يمكن أن تشكّل ذراعاً أمامياً، لمواجهة صور الاندحار الثقافي، الحاصل في الثقافة العربية منذ عقود، وذلك بفعل اتساع تيارات الفكر النصّي المحافظ وتناميها، وانقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الاجتهاد والإبداع في فكرنا.
لا نتحدث عن نموذج جاهز في التنوير بأسئلته ومعاركه، ذلك أنّ التنوير إبداعٌ يجسّده تاريخ من المواجهات والمجابهات والمعارك. وإذا كان الانفجار السياسي العربي، الحاصل منذ سنة 2011، قد أفرز مشهداً جديداً في واقعنا الثقافي والسياسي، واكتشف الجميع، بالملموس، أنّ التغيير المنشود في مجتمعاتنا لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل يتطلب رؤية شاملة لمختلف زوايا النهوض والتنمية، رؤية تشكل الخيارات الثقافية والاجتماعية في مختلف تجلياتها رافعة من روافعها الأساس.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".