هل استيقظ الإسلام "النائم"؟

هل استيقظ الإسلام "النائم"؟

18 فبراير 2020

(مروان قصاب)

+ الخط -
ليس من الغريب أن يُطلق بعض الباحثين والمثقفين على التصوّف الإسلامي اليوم مصطلح الإسلام النائم، فالحديث عن التصوّف يكاد يكون قد تراجع في الأوساط السياسية والإعلامية خلال العقود الماضية، (قبل أن يعود إلى الظهور مجدّداً)، واحتل محله الحديث عن التيارات السلفية والجهادية والإسلام السياسي، وكأنّ المتصوّفة استقالوا من معالم الحياة العامة، أو اعتكفوا في الزوايا وحلقات الذكر وقرّروا عدم الخروج!
القناعة التي طغت على باحثين وخبراء كثيرين أنّ التصوف تراجع، وأنّه فقد تأثيره الاجتماعي والثقافي، مقارنةً بما كانت عليه الحال في القرون الماضية، وهي قناعة قد تكون صحيحة جزئياً، أو على سطح المشهد العام، لكن في الحقيقة من يقرأ المشهد بدقّة ويدرس أحوال المتصوّفة يجد أنّ هناك انتشاراً كبيراً وواسعاً في مختلف مناطق العالم، في أفريقيا، جنوبها وشمالها وشرقها، وفي وسط آسيا وشرقها، فضلاً عن المشرق العربي الذي قد يكون هو من شهد تراجعاً في دور التصوّف، في القرن العشرين عموماً.
لماذا عاد الحديث عن التصوّف، إذن، خلال العقود الأخيرة، وتطوّر بصورة ملحوظة مع بداية الألفية الجديدة؟ لأسباب كثيرة، في مقدّمتها ازدهار التصوّف من جديد، بصور متعددة ومتنوعة، فنجد إقبالاً ملحوظاً على كتابات المتصوّفة الأوائل وأشعارهم، جلال الدين الرومي، ابن عربي، الحلاج، شمس الدين التبريزي، ورابعة العدوية، بالتوازي مع استطلاعات الرأي التي توضح 
أنّ هناك تحولات تحدث في أنماط التديّن لدى جيل الشباب من "الإسلام المؤدلج" إلى "الإسلام الفردي الروحاني"، التحولات المجتمعية والعالمية الموازية التي تبحث عن الروحانيات في عالم الماديات، وبروز أفكار نقدية لفكر الحداثة الذي هاجم الروحانيات بقسوة، في مقابل عودة ملحوظة إلى هذا المجال، كما يلاحظ في أوروبا وأميركا ومجتمعات عالمية عديدة.
بالضرورة، تلبّس التصوّف بصورة نمطية، جزء منها ذاتي، والآخر مضاد أو إعلامي، فأصبحت صورة المتصوّف مرتبطة بالخرافات والتقاليد والخزعبلات، والإسلام التقليدي الرافض للحداثة والمستنكف عن النضال الاجتماعي والسياسي، واختلط مفهوم التدين الصوفي بالشعبي، فاختفت الفلسفة التي أنتجت الصوفيين الأوائل ومقالاتهم وأشعارهم وتجاربهم الروحية.
يمثل الجانب السياسي من "صحوة التصوّف" (إن جاز التعبير) اليوم إحدى أهم نقاط الإشكال، بخاصة أنّ هنالك دراسات وأبحاثا لمراكز تفكير أميركية وسياسات غربية وعربية تريد وضع التصوّف في مواجهة "الإسلام السياسي"، أو استخدامه "أفيونا" في مواجهة التطلعات الشعبية للحرية والديمقراطية، وهو الدور الذي أدّته بالفعل أوساط متصوفة في دول عربية عديدة، كما هي حال أوساط سلفية تقليدية، وبعض الحركات الإسلامية.
ولكن من الخطأ اختزال التصوّف سياسياً في هذا الجانب، فالأصل أن نقرأ الصورة الكلية، فهناك حركاتٌ وطرقٌ صوفيةٌ قامت بدور كبير في مواجهة الاستعمار، وفي التحرّر الوطني، في آسيا الوسطى وشمال أفريقيا. وحتى في الربيع العربي، لم يكن المتصوّفة في صفّ واحد، ومثال ذلك حركة زيد في سورية، وجيش الطريقة النقشبندية، وهكذا في عدة دول عربية. ومن المعروف أنّ الإسلام السياسي في تركيا ارتبط بدرجة عميقة بالنقشبندية الخالدية.
أحد الكتب المهمة التي تتناول هذا الموضوع اليوم كتاب أريك غوفروا (اعتنق الإسلام وتسمّى يونس) بعنوان "المستقبل للإسلام الروحاني"، ويكمله كتاب "التصوف طريق الإسلام الجوّانية". وفي مقاربته، يعود غوفروا إلى أصول الصوفية وشيوخها وفلسفتها، ويرى أنّ التصوّف هو قلب الإسلام، وهو المكمّل للإسلام الفقهي والشرعي.
يكرّس غوفروا كتابه "المستقبل للإسلام الروحاني"، لتقديم مرافعة علمية وفكرية عن أهمية التفسير الروحاني للقرآن والإسلام، وعن ضرورة ردّ الاعتبار للصوفية بوصفها الجسر الذي يمكن من خلاله تقديم الإسلام المنفتح الحضاري الإنساني للعالم.. الإسلام الذي يمتلك القدرة على التواصل مع الأديان والحضارات الأخرى، ويطالب بلاهوت تحرّري، لكن في الجانب 
الروحاني لتخصيب الحياة الروحية لدى المسلمين، وإخراجهم من هيمنة الحياة المادية، ويدفع إلى تفسير ثوري - روحاني للقرآن الكريم.
يقرّ غوفروا بأنّ التصوّف بحاجةٍ إلى إصلاحات جذرية، خصوصا ما آلت إليه أحوال الطرق الصوفية، وهو يميل أكثر إلى مرحلة الصوفيين الأوائل، الذين (كما يراهم) امتلكوا الحكمة الصوفية الكونية، وخاضوا التجربة الروحانية، وقدّموا لنا هذه الفلسفة الفريدة في التواصل مع الله والكون. ويعلّق غوفروا آمالاً كبيرة على أنّ "صحوة التصوّف" ليست عابرة ولا آنية، بل تمثل الاتجاه المستقبلي بعيد المدى، لأنّها تقدّم وصفة جوهرية لآلام الإنسانية ومشكلاتها وأزماتها، ولأنّها (الصوفية) متأصلة في الطبيعة البشرية من خلال عالم الروح ومتطلباته، وبالتالي هي محط اهتمام الأديان والفلسفات التي تسعى إلى الخير والصلاح.
من ينظر في أبعاد الاستيقاظ الصوفي اليوم يجد هناك مظاهر عديدة، بعضها قديم وآخر جديد. وفي الغرب تحديداً ثمّة حراك ملحوظ من خلال مؤسسات وحلقات بحثية، وعدد كبير من المثقفين والمفكرين الغربيين، ونسبة منهم اعتنقت الإسلام، وأخرى تأثرت بالفكر الصوفي، ونجد كذلك دوراً ملحوظاً لطبقة من الأكاديميين والمثقفين الذين درسوا الصوفية والتصوّف، وتأثروا به كثيراً. حتى على صعيد العمل التلفزيوني يمكن ملاحظة التحول الملحوظ من صورة التصوّف بوصفه فقط دروشة سطحية، إلى فلسفة دينية وروحية ودور تاريخي، في مسلسلات تركية وعربية عديدة.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.